أهمِّيةُ التَّشجيع وخطورةُ التثبيط | الشيخ محمد مسلماني


نشرت: يوم الجمعة،26-يناير-2024

أهمِّيةُ التَّشجيع وخطورةُ التثبيط

إنَّ أثَرَ التشْجيعِ والتحفيزِ في المجتمعِ لكبيرٌ، وفائدتَه عظيمةٌ، وتركَه خطيرٌ، فكم بسببه اكتُشِفَتْ مَواهب، وحُقِّقَتْ مَطالب، وبِتَرْكِه ضَعُفَت الهِمَم، وخَسِرت الأُمَم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وإنَّ الإنسانَ إذا لم يكن على درايةٍ بِفَنِّ التشجيع بحيثُ يتكلَّمُ كلامًا يبعثُ الهمَّةَ والنشاطَ في نفسِ سامِعِه، فلا أقلَّ من أن يسكُتَ مُتَمَثِّلاً بحديث رسول الله ﷺ الذي يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله ﷺ قال:

مَن كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخر فليَقُل خَيراً أو لِيصمُت (صحيح البخاري: 4/136، (6136))

لئلا يؤذي أحدًا بكلمةٍ تمنعُ من النُّهوضِ والصُّعودِ والسَّعْيِ والإقبال، فربَّ كلمةٍ مشجِّعةٍ مؤثِّرة خرجت من قلبِ محبٍّ صادقٍ صنعت رجلاً لا نظيرَ له، وربَّ كلمةٍ مثبِّطةٍ محبطةٍ خرجت من قلب حاسدٍ حاقدٍ هبطت بالإنسانِ إلى الكسل فتقاعسَ وترك العمل!

والباحثُ المتأمِّلُ في تاريخنا الإسلامي، المتنزِّهُ في بساتين سِيَر أئمَّتنا السالفين من العلماء والصالحين، يَجِدُ صُوَرًا رائعةً رسمَها أسلافُنا مع طُلَّابهم وتلامذَتهم من خلالِ كلماتٍ همسوها في آذانهم ممزوجةً بالحبِّ والمعرفةِ، فعلت الأعاجيب، وكانت مصنع الرجال.

قصصٌ واقعيةٌ

وكلمات في التشجيع صنعت أئمة كبارًا

فمن ذلك ما حصل مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى (ت: 150 هـ) قبلَ طلبه للعلمِ، حينَ سمِعَ كلماتٍ من صاحبٍ لابن سيرين رحمه الله تعالى بعدَ رؤيا قصَّها عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فعبَّرها له بلطافةٍ وحصافةٍ بقوله: (لتعملنَّ في إقامةِ السُّنةِ عملاً لم يسبقْكَ به أحدٌ، ولتدخُلنَّ في العلم مدخلاً بعيدًا).

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: فلما سمعت ذلك منه اجتهدتُ في هذا العلم هذا الاجتهاد (عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لمحمد بن يوسف الصالحي: صـ: 171).

ترجمة لطيفة للإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله تعالى

فانظر يا أخيَّ! إلى هذا التأويل الحسنِ، والكلام المشجِّع الذي أنتجَ لنا رجلاً حسبُنا في وصفه أن نقول:

* ما قاله الإمام مالك رحمه الله تعالى: "رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته".

* وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: النَّاس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة.

* وقال رحمه الله تعالى: ما رأيت أحدًا أفقَهَ من أبي حنيفة (مسند أبي حنيفة رواية الحارثي تحقيق أبو محمد الأسيوطي صـ: 6).

* وقال صاحب كتاب "منازل الأئمة الأربعة" الإمام أبو زكريا يحيى بن إبراهيم السَلَماسِيّ رحمه الله تعالى (ت:550 ه) ما نصُّه: أما أبو حنيفة فله في الدِّين المراتبُ الشريفة، والمناصبُ المنيفةُ، سراجٌ في الظُّلمة وهَّاج، وبحرٌ في الحِكَم عجَّاج، سيِّدُ الفقهاء في عصره، ورأسُ العلماء في مِصره، له البيانُ في علم الشَّرع والدِّين، والحظُّ الوافر من الورع المتين، والإشاراتُ الدَّقيقة في حقيقة اليقين، مهَّد ببيانه قواعدَ الإسلام، وأحكم بتبيانه شرائع الحلال والحرام، وصار قدوةَ الأئمة الأعلام، سبق الكافةَ منهم إلى تقرير القياس والكلام، وغدا إماماً تُعقَدُ عليه الخناصر، ويشير إليه الأكابر والأصاغر، انتشر مذهبُه في الآفاق، وعُدَّ من الأفراد بالاتِّفاق، فضلُه وافر، ودينُه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت (منازل الأئمة الأربعة لأبي زكريا يحي السَلَماني: 161).

قصةُ الإمامِ الشافعيّ رحمه الله تعالى

ومن ذلك قصةُ الإمامِ الشافعِيِّ رحمه الله تعالى (ت: 204 هـ) قبلَ الطَّلب حين لزم هذيلاً في البادية _قبيلة عربية كبيرة من العرب الْمُضَريَّة العدنانيَّة يسكنون في الحجاز_ يتعلمُ كلامَها، ويأخُذُ بلُغَتِها.

قال: فلمَّا أنْ رجعتُ إلى مكةَ جعلتُ أُنشِدُ الأشعارَ، وأذكرُ أيامَ الناسِ، فمرَّ بي رجلٌ منَ الزُّهرِيِّين، أي: من بني زهرة إحدى قبائل العرب، فقال لي: يا أبا عبد الله عزَّ عليَّ أن لا تكونَ في العلمِ والفقهِ هذه الفصاحةُ والبلاغةُ!

قلتُ: من بقيَ مِمَّن يُقصَد؟

فقال: مالك بن أنس سيدُ المسلمين.

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: فوقع ذلك في قلبي، وعمَدتُ إلى «الموطأ» فاستعرته من رجلٍ بمكةَ وحفِظتُه.

ثم رحل إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى (ت: 179 هـ) والقصة معروفة وفيها يقول الإمام الشافعي: فلما أن سمعَ كلامي نظر إليّ ساعةً، وكانت لمالكٍ فِراسةٌ.

فقال لي: ما اسمُك؟

فقلتُ: محمد.

فقال: يا محمد! اتَّق اللهَ واجتنب المعاصي فإنَّه سيكون لك شأنٌ من الشأن.

فقلت: نعم، وكرامة.

وقرأ عليه الموطأ من حفظه في أيامٍ يسيرة، ولازمَه في المدينة إلى أن توفّي مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

فكان ما كان من عِظم شأن الإمام الشافعي، وانتشار مذهبه في بلاد الإسلام رحمه الله، وكل ذلك بسبب كلمة! (مناقب الشافعي للبيهقي: 1/102، 103).

قصة الإمام الذهبي رحمه الله تعالى

وكذلك قصة الإمام الذهبي رحمه الله تعالى (ت: 748 هـ)، وهو يحكي لنا عن شيخه علمِ الدين البِرْزاليِّ (ت: 739 هـ) الذي كان سببَ اهتمامه بالحديث الشريف، قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: وهو الذي حبَّبَ إليّ طلبَ الحديث حين قال لي:

"خطُّك يشبه خط المحدثين" فأثَّر قولُه فيّ، وسمعتُ وتخرجتُ به في أشياء (الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي: 4/162).

والقصص في ذلك كثيرةٌ مشهورةٌ، ولكنَّني اقتَطفتُ من تلك البساتينِ الجميلةِ بعضَ الزهورِ ذاتِ العبقِ الرائعِ، ففي ذلك كفاية، لمن أراد الهداية.

التثبيط والإرجاف

وأما التثبيط والمثبطون والإرجاف والمرجفون:

فلا أريد أن أخوضَ في غماره، وذلك لشهرته وكثرة انتشاره بين الناس مع الأسف إلا من حفظه الله منه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولكن سأقدّم لكم نصيحةً من أخٍ محبٍّ لكم فتأمَّلوها.

أقول لكل من وصله كلامي:

- كن همزةَ وصلٍ لا همزةَ قطع بمعنى آخر: لا تكن قاطع طريق.

- كن إيجابيًا، لا تكن سلبيًا.

- شجِّع الآخرين على كل خير وفضيلةٍ، وكلِّ ما هو نافعٌ في الدِّين والدنيا والآخرة.

- لا تكن مثبطًا مانعًا للخير صادًا عنه، داعيًا للفساد والعياذ بالله!

فإننا رأينا بعضَ الشباب انحرفوا عن جادَّة الصوابِ وذلك بسبب عدمِ التشجيعِ والمتابعةِ، وقلةِ الاهتمام بهم، وعدمِ تحفيزهم وتوجيههم لأعمال البرِّ، لكنهم وجدوا في الطريق الآخر مشجّعينَ يشجعونهم على كلِّ رذيلة وفاحشة -والعياذ بالله- وبعضهُم تركَ حفظ القرآن بسبب كلمةٍ سمعها من صديقِه أو قريبٍ له!

والبعض ترك طريق العلم بسبب كلمة! فحذار أيُّها الإخوة من ذلك، ولنحرص على الكلمةِ الطيبة النافعةِ البنَّاءة التي تِنهضُ من سمعَها.

فقد قال بعض العلماء لأحد طلابه: لو جاءك شخصٌ يريد أن يتعلَّم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: هذا غير ممكن فتُبرد همته وتُثْنِيَ عزيمته! ولكن أقرئه وحبِّب النحوَ إليه، فلعلَّه إذا أَنِسَ به يتابعُ ويواظبُ على دراسته.

تجربتي الشخصية

وفي الختام أقول: لولا عنايةُ والديَّ، ومشايخي، وأساتذتي، وبعض الفضلاء بي وتشجيعهم إيَّايَ لَمَا وصلتُ إلى ما وصلتُ إليه من حبِّ العلم والعلماء والصُّلحاء وأهل القرآن والإحسان والعرفان.

ولَمَا كنت أُحسِنُ علمًا من العلوم، ولا فنًّا من الفنون، ولكنَّه توفيق الله وعنايته سبحانه بعبده الضعيف أن تفضَّل عليَّ بصحبة أناسٍ يحبّونَ الخيرَ للجميعِ، ويشجّعون على إشاعة العلم ونشر المعرفة.

فلا أنسى كلماتٍ سمعتها من شيخي الذي كنت أقرأ عليه ختمةَ القرآن قال لي في آخرها: أنت إن شاء الله قارئٌ مقرِئٌ.

وكلمات شيخي الذي أقرأني كتابًا في علم التوحيد قال لي: ستُقرِئُ هذا الكتابَ لطلابِ العلم.

وكذلك قال لي كل شيخٍ من مشايخي في الفقهِ والحديثِ والنحوِ والتربيةِ والسلوكِ وغيرِها من العلوم فوقع كلامُهم في قلبي موقعًا عظيمًا، وكان سببًا للنجاح والفلاح والمتابعة والتقدّم فجزاهم الله عني خير الجزاء.

ونسأل الله أن يوفقنا لمحابِّه من الأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب، وصلى الله تعالى على معلِّم الناس الخير، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة
#مجلة_فصلية

تعليقات



رمز الحماية