كُن رحيمًا بعباد الله تعالى جميعًا | الشيخ المفتي محمّد قاسم العطّاري


نشرت: يوم السبت،27-أبريل-2024

كُن رحيمًا بعباد الله تعالى جميعًا

قال الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله:

وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ [الأعراف: 156]..

التفسير: لا شكّ أنّ صفات الله عزّ وجلّ غير متناهية، ولا يمكن للمخلوقات أن تحصرها أو تُحصيها، إنّما الله وحده الذي يعلم بجميع صفاته الألوهيّة، وأهل العلم يتعرّفون على بعض الصفات المذكورة في القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة، وهناك العديد مِن الصفات الأخرى التي يتعمّق بها أهل المعرفة وأهل الخصوصية، ولكن هناك صفاتٌ إلهيّةٌ معروفةٌ يعرفها كلّ مسلم سواء كان رجلًا أو طفلًا، مثل: الله جلّ وعلا هو الخالق، الرازق، المالك، الربّ، المحيي، والمميت.

ومن بين الصفات الإلهيّة المشهورة: صفة الرحمة، ونعلم أنّ مِن أسماء الله عزّ وجلّ: الرحمن الرحيم، وبهما نفتتح كلّ سورة في القرآن الكريم، وتعتبر هاتان الصفتان ذات أهميةٍ كبيرةٍ في حياة المسلم، حيث يُشرع له قراءة "بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ" قبل البدء في أيّ عملٍ صالحٍ، وتذكر صفتا الرحمن والرحيم في البسملة، ويجب أيضًا قراءة سورة الفاتحة في كلّ صلاةٍ، حيث في بدايتها تلكما الصفتان.

أيّها الأحبّة الأعزّاء! لقد وصف الله تعالى ذاته بالرحمة في القرآن الكريم وبأشكالٍ متعددّةٍ وبتنوّعٍ كبيرٍ، كما قال الله تعالى:

نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٤٩ [الحجر: 49].

وقال الله عزّ وجل:

وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ [الأعراف: 156].

وقال تعالى في مقامٍ آخر:

قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣ [الزمر: 53].

إنّ الرحمةَ صفةٌ محبوبةٌ عند الله تعالى، وقد منح الله حبيبه المصطفى سيّد العالمين سيّدنا محمّد رسول الله ﷺ بصفاتٍ عظيمةٍ، ومِن بين هذه الصفات البارزة في شخصيّته ﷺ هي: صفة الرحمة، كما قال الله تعالى:

وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107].

وقال الله عزّ وجل في مقامٍ آخر بأسلوبٍ رائعٍ:

لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128].

ولقد منّ الله عزّ وجلّ على عباده المؤمنين ببعثة النبي الكريم ﷺ فيهم ووصفه بأنه شديد الرأفة والرحمة بهم، فقال تعالى لحبيبه المصطفى ﷺ: يا محمّد، إنك بعظمة أخلاقك، وجمال طبيعتك، ونعومة مزاجك، وسخاء روحك، ورحمتك الوفيرة، وحلمك وتسامحك الجميل، وكلّ هذه الخصال العظيمة الرفيعة هي نتيجة لفضل ورحمة الله تعالى بك ومنّته عليك وعلى المؤمنين.

لذا لم يكن رسول الله ﷺ فظًّا غليظ القلب، وإنّما كان رؤوفًا رحيمًا رفيقًا شفوقًا على المؤمنين، كما قال الله تعالى:

فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ [آل عمران: 159].

كما أنّ بعثة خاتم النبيّين سيّدنا محمّد ﷺ تُعتبر أعظم وأكبر نعمة وهبها الله تعالى للبشريّة حيث جعله رحمةً للعالمين، وبفضل هذه النعمة والرحمة صيّر الأعداء أصدقاء، وأزال كراهية القلوب، وجرى لطفه تجاه المبتعدين والمتنابذين، فسدّ الله به الفجوات بين الأقرباء والأحبّاء المتفرّقين، وجمع قلوب المؤمنين حتّى أصبحوا يُفضّلون الآخرين على أنفسهم، وقلَّب أذهان المتحاربين والمجادلين ليكونوا إخوة متحابّين فيما بينهم، وقد قال الله عزّ وجلّ في محكم تنزيله:

وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا [آل عمران: 103].

كما أن نزول القرآن الكريم أيضًا هو من مظاهر رحمة الله عزّ وجلّ في عباده، كما قال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧ [يونس: 57].

ثم إن أصحاب النبي محمّد ﷺ هم منارات للرشد والهداية والرحمة بالخَلق بعد الرسول ﷺ، وقد قال الله جلّ ذكره في شأنهم:

رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ [الفتح: 29].

وديننا الإسلامي هو دين الرحمة والشفقة واللين والمحبّة والعفو والصفح والحلم والتحمّل...، وقد تمّ التعبير عن هذه القيم بأساليب متنوّعة في القرآن الكريم، ومن بين هذه الأساليب ما يتعلّق بفضيلة العفو والصفح والغفران، كما جاء في قول الله تعالى:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ٤٣ [الشورى: 43]..

وأمر بالحلم عند الجهل، وبالعفو عند الإساءة، فقال تعالى:

ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ ٣٤ [حم السجدة: 34].

ولقد حثّ الله المسلمين في كتابه العزيز على الإحسان والتراحم والتعاطف مع الأقارب والمجتمع، لذا ذكر هذه الفئات في كثيرٍ مِن الآيات الكريمة، منها قوله تعالى:

وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا [البقرة: 83].

وفي سياق المحبّة والرحمة حيث يظهر النقص بشكلٍ أوضح، وخاصّةً فيما يتعلّق بالعلاقات الزوجيّة، أمر اللهُ الزوجَ "التمسّكَ بالمودّة والشفقة" مع زوجته، وقد أكّد على ذلك بقوله تعالى:

وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ١٩ [النساء: 19].

وقال الله عزّ وجل في مقامٍ آخر:

فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا ٣٤ [النساء: 34]..

إخوتي الأعزّاء! كيف يمكننا الحفاظ على الرحمة تجاه الآخرين والتعبير عنها بالرحمة والرأفة واللطف!؟ يمكننا الاستفادة مِن التعاليم الجميلة المقدّمة في القرآن الكريم حيث يشير لنا إلى أجواء الرحمة والفسْح في المجالس والتجمّعات الحياتيّة، فقد قال الله تعالى:

يٰٓأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ [المجادلة: 11].

أي: إذا طُلب منكم التوسّع في المجلس فليفسح بعضكم لبعضٍ ليأخذ القادم مكانه في المجلس، فهذا الفعل البسيط الذي يَظهرُ في إفساح المجالس لإخوانهم، يجعله مقبولًا ومحبوبًا عند الله عزّ وجلّ فكأنه يقول: ليوسّع أحدكم للآخر يوسّع الله لكم في رحمته أو في منازل الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم (روح المعاني: 28/312، مأخوذًا).

ألله أكبر وسبحان الله والحمد لله على فضله وكرمه ورحمته ورأفته.

أيها الأحبّة الكرام! يجب علينا التعامل مع خلق الله بأولويّة وأساسيّة، متجنّبين إلحاق أيّ ضررٍ غير مبرّر بهم، كما نتجنّب إحزانهم في قلوبهم، بعيدين عن الشتائم أو النطق بالزور أو الغيبة أو البحث عن عيوب الآخرين وعن كل ما يؤدّي لإيذائهم بأقوالنا أو أفعالنا، وعلينا أن نبتعد عن التسلية على حساب شرف وكرامة الآخرين، سواء كان ذلك مِن خلال الضجّة أو الفوضى أو التلوّث أو اللعب أو بأيّ شكل مِن الأشكال لأن كل ذلك ينافي الرحمة واللطف واللين.

وهذا اللطف الذي تحدثّنا عنه هو واجبٌ علينا، كما قال الله تعالى:

وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٥٨ [الأحزاب: 58].

الخلاصة:

في ختام هذا المقال والكلام يتجلّى بوضوحٍ:

أنّ الرحمن الرحيم هو إلهنا العظيم.

وأنّ نبيّنا الحبيب ﷺ هو رحمة للعالمين.

وأنّ القرآن الكريم يشكل مصدرًا أساسيًّا للرحمة.

وأنّ الإسلام يتّسم بالرحمة الشاملة.

وأنّ تعاليمه أسّست على قيم الرحمة، ونحن ملزمون باتّباع أوامر الرحمة والشفقة.

لكن ما السبب في أنّ الصفات الرفيعة والأخلاق السامية مثل: اللطف والشفقة والمحبّة واللين والرحمة والرأفة وراحة الصدر وسعة القلب والعفو والتسامح والابتسامة وحسن الأخلاق وحسن التعامل والاهتمام بالآخرين وعدم إيذائهم؛ هي صفات وعادات أخلاقيّة عالية راقية، إلا أنّها درجتها نزلت في مجتمعنا؟

وما السبب في ظهور وانتشار الكراهيّة والعداوة والشدّة والعنف والغضب والحقد والحسد، إضافة للتأثيرات السلبيّة على الوجوه والسلوك السيء، والتسبّب في إزعاج الجيران بالضجّة والغوغاء، وانتهاك حقوق الآخرين في الأزقّة والطرق والشوارع، ثم شعور الناس بالملل واليأس في حياتهم اليوميّة؟ لماذا يحدُث هذا؟ ولماذا تنحدر هذه القيم والأخلاق في المجتمع؟

نسأل الله أن يجعلنا مسلمين حقيقيين، متحلّين بأنوار صفات الله عزّ وجلّ في أنفسنا، متبعين سنّة الرحمة واللطف كما هو حال نبيّنا الحبيب ﷺ، ونسلك خطى الأولياء الكرام رحمهم الله تعالى باتّباع أخلاقهم الرفيعة، ونبذل جهدنا بالنفع والإحسان إلى الناس، مع الاهتمام الدائم برعاية خلق الله تعالى، آمين بجاه النبي الأمين صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة
#مجلة_فصلية

تعليقات



رمز الحماية