مدونات مختارة
الأكثر شهرة
جواب مختصر عن الخلوة وسند الطريقة وأمر الذكر عند أهل التصوف | الشيخ طارق المحمد
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: هذا جواب مهم في ثلاث مسائل مهمة تثار حول بعض ما يقوم به أهل التصوف وقد اقتبسنا الجواب مختصرًا مع بعض التصرف من كتاب "حقائق عن التصوف" لسيدي العلامة المربي العارف بالله الشيخ عبد القادر عيسى الحلبي رحمه الله تعالى ورضي عنه فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى:
أولاً: الخلوة كانت داخلة ضمن البعثة ولكن قبل نزول الوحي الصريح؛ بدليل قول السيدة عائشة أم المؤمنين أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي "الرؤيا الصالحة في النوم"،...، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو -التعبّد- الليالي ذوات العدد (صحيح البخاري: ٣) (صحيح مسلم: ١٦٠).
ثانيًا: الرسول ﷺ بعد نزول الوحي وجبريل عليه السلام لم يترك الخلوة لكنه ما ترك الاعتكاف حتى انتقل من هذه الدنيا صار يوجد من حوله أهل الإيمان فكان يخلو في المسجد في كل عامٍ مرة في العشر الأواخر من رمضان إلى آخر حياته، قالت السيدة عائِشةُ رضي الله عنها:
كان رَسولُ اللهِ ﷺ يَخلِطُ العِشرينَ بصَلاةٍ ونَومٍ، فإذا كان العَشرُ، شمَّرَ وشدَّ المِئزَرَ -أو شدَّ الإزارَ- وشمَّرَ (مسند أحمد: ٢٥١٣٦).
ثالثًا: سيرة رسول الله ﷺ حيث أنه بدأ عمله السلوكي بالخلوة يشير إلى أن الانسان يحتاج إلى خلوة كما استدل على ذلك بهذا الحديث أئمة الإسلام..
قال الإمام القسطلاني رحمه الله تعالى (م 923 هـ) في شرحه لحديث السيدة عائِشة رضي الله عنها المذكور: فيه تنبيه على فضل العزلة؛ لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا، وتفرغه لله تعالى، فتنفجر منه ينابيع الحكمة.
والخلوة أن يخلو عن غيره، بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يصير خليقًا بأن يكون قالبه ممرًا لواردات علوم الغيب، وقلبه مقرًّا لها.
فإن قلتَ: إن أمر الغار قبل الرسالة، ولا حكم إلا بعد الرسالة؟
* قال المحدث القسطلاني مجيبًا: إنه أول ما بُدِئ به عليه الصلاة والسلام من الوحي "الرؤيا الصالحة"، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء كما مر، فدل على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي؛ لأن كلمة [ثم] للترتيب، وأيضًا لو لم تكن من الدين لنهى عنها، بل هي ذريعة لمجيء الحق، وظهورُه مبارك عليه وعلى أمته تأسِّيَاً وسلامة من المناكير وضررها، ولها شروط مذكورة في محلها من كتب القوم(إرشاد الساري للقسطلاني: 1/62).
* قال الإمام النووي رحمه الله تعالى (م 676 هـ) في شرح حديث السيدة عائِشة رضي الله عنها عند قوله: "حبب إليه الخلاء": أما الخلاء فهو الخلوة، وهي شأن الصالحين، وعباد الله العارفين.
ثم قال: قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: حُبِّبَتْ إليه العزلة ﷺ؛ لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشّع قلبه (شرح صحيح مسلم للإمام الفقيه الحافظ أبي زكريا محي الدين النووي: 2/198).
كما أن رسول الله ﷺ وجّه الصحابة والناس جميعًا في حديث السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلّه ومنهم:
(ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا فَفاضَتْ عَيْناهُ) (صحيح البخاري: ٦٦٠) (مسلم: 91).
والتفصيل يأتي من العلماء الربانيين والمربين المرشدين كما هو الحال في الأحكام الفقهية من الفقهاء وكذلك الأمر في الأحكام التربوية والسلوكية يُرجَعُ فيها للمربّيين العارفين
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: من أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب (بستان العارفين للنووي: صـ 47).
وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة (فيض القدير: 3/482).
إذنْ فالخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله ﷺ للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهّر قلوبهم، وتتأهّل لتجليات الله تعالى.
* أليس هذا التوجيه من رسول الله ﷺ سببًا للتعرّف على فاطر السماوات والأرض؟
* أليس هذا أساسًا للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلاً للكشّف والفيض والإشراق والصفاء؟
* ألم يقل رسول الله ﷺ في الحديث السابق ذكره: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه(صحيح البخاري: كتاب الرقاق، رقم الحديث: ٦٦٠).
* أليس هذا الحديث دليلاً قاطعاً على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى؟
* وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خاليًا فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته "أهل ذكري أهل مجالستي" (مسند أحمد). لا يدور بخَلدِه أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدُس الأعلى.
وَليُّ الله ليس له أنيسُ*****سوى الرحمن فهو له جليسُ
فيذكرهُ ويذكرهُ فيبكي*****وحيدُ الدهر جوهره نفيسُ
وأما الصحابة أو التابعين فكانوا كلهم يحافظون على الاعتكاف العشر الأواخر من رمضان وهذا هو الخلوة، وعندما تتيسّر الخلوة في العشر الأواخر من رمضان في المسجد يرجّحها الشيوخ على غيرها من الأوقات، والفقهاء قالوا: الاعتكاف على مدار العام مستحب، وفي رمضان أشد استحبابًا وفي العشر الأواخر سنةٌ مؤكدة (المعتمد في الفقه الشافعي – 2/226، ملخصاً).
فوائد الخلوة: قد ذكر المربّون والعارفون أن للخلوة عشر فوائد:
1ـ السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.
2ـ السلامة من آفات النظر، فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته) (فيض القدير: 4/398).
3ـ حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.
4ـ حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.
5ـ السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.
6ـ التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.
7ـ وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال أبو طالب المكي في "القوت": (لا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية) (قوت القلوب: 1/173).
8ـ راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.
9ـ صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.
10ـ التمكّن من عبادة التفكّر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة (إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة: 1/30).
المسألة الثانية:
أما الذكر بالاسم المفرد [الله] فجائز بدليل قول الله تعالى:
واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ وتبتَّلْ إليه تبتيلاً [المزمل: 8].
وقوله تعالى:
واذْكُرِ اسمَ ربِّكَ بكرةً وأصيلاً [الدهر: 25].
وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك عن النبي ﷺ:
"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله" (صحيح مسلم: 234، بطريق عن حمّاد عن ثابت عن أنس).
فهذا اسم مفرد ورد ذكره مكررًا في هذا الحديث.
وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ﷺ: "لا تقوم الساعة على أحدٍ يقول: الله، الله" (أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه متصلا بالحديث الذي رقمه 234، بطريق عن مَعْمَر عن ثابت عن أنس).
فهذا يشير إلى الإكثار من ذكر "الله، الله". والتفصيل أيضًا فيه في الإكثار يرجِع إلى المربّين العارفين.
المسألة الثالثة:
وأما السند فقال العلماء: الإِسناد من الدين، ولولا الإِسناد لقال مَنْ شاء ما شاء، والإسناد معتمد عند أهل السنة والجماعة، سواءً عند المحدثين أو عند الفقهاء أو عند أهل التصوف، ولما كان التصوّف من حيث الحقيقة لا من حيث الاسم هو روح الإسلام مُني التصوف (أي عُودي) بهجماتٍ منذ الزمن البعيد تقصد إلى تشويهه، لا سيما وأنه يتعلق بتربية النفس والروح وعلاقته بأمور تكاد أن تكون خفية على الناس ولا يتنبّهون لها، لذلك فإن أعداء الإسلام بمكرهم ودهائهم حاولوا الدخول للتشويه في الإسلام من خلال أمور النفس والقلب وكذا وكذا.. تحت شعار التصوّف، والصوفية الحقيقيّون المتمكّنون في العلم والسلوك، نبّهوا إليهم منذ القديم وحذّروا من الدسائس الباطنية... ولذلك قال شيخ الصوفية الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة) (وفيات الأعيان: 1/346).
وقال أيضًا: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إِلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام، واتبع سنته ولزم طريقته، فإِنَّ طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه) (المرجع السابق).
وقال أيضًا: (ما أخذنا التصوّف عن القيل والقال لكن عن الجوع [الصوم] وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات) (الرسالة القشيرية: صـ 22).
هكذا عُرف التصوّف والطريق بالتلقّي عندهم كابرًا عن كابرٍ فمثلاً: قد نقل الفقيه الحنفي الحصكفي صاحب الدر رحمه الله: أن أبا علي الدقّاق رحمه الله تعالى قال: أنا أخذتُ هذه الطريقة من أبي القاسم النصر أباذي.
وقال أبو القاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهو من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه، وكلٌّ منهم أثنى عليه وأقرّ بفضله..
ثم قال صاحب الدر معلقًا:
فيا عجبًا لك يا أخي! ألم يكن لك أسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار؟
أكانوا مُتَّهمين في هذا الإِقرار والافتخار، وهم أئمة هذه الطريقة وأرباب الشريعة والحقيقة؟
ومَن بعدهم في هذا الأمر فلهم تبع، وكل ما خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع (الدر المختار: 1/43، وعليه حاشية ابن عابدين رحمه الله تعالى).
وكونه لم يرد في بعض الروايات باب التصوّف أو الطريقة يجيب الشعراني رحمه الله تعالى على هذا فيقول:
إِنما لم يضع المجتهدون في ذلك كتابًا لقلة الأمراض في أهل عصرهم، وكثرة سلامتهم من الرياء والنفاق ثم بتقدير عدم سلامة أهل عصرهم من ذلك، فكان ذلك في بعض أناس قليلين، لا يكاد يظهر لهم عيب.
وكان معظم همة المجتهدين إِذ ذاك إِنما هو في جمع الأدلة المنتشرة في المدائن والثغور مع أئمة التابعين وتابعيهم، التي هي مادة كل علم، وبها يُعرف موازين جميع الأحكام، فكان ذلك أهم من الاشتغال بمناقشة بعض أناس في أعمالهم القلبية التي لا يظهر بها شعار الدين، وقد لا يقعون بها في حكم الأصل.
ولا يقول عاقل قطُّ: إِن مثل الإمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رضي الله عنهم، يعلم أحدهم من نفسه رياءً أو عُجبًا أو كبرًا أو حسدًا أو نفاقًا ثم لا يجاهد نفسه ولا يناقشها أبدًا.
ولولا أنهم يعلمون سلامتهم من تلك الآفات والأمراض لقدموا الاشتغال بعلاجها على كل علم (لطائف المنن والأخلاق للشعراني: 1/25 -26).
إلى جانب ذلك لم يكن شيء معروفًا في وقتهم أيضًا عن القراءات العشر أي عند الصحابة كقراءة ورش وابن كثير وعاصم ونافع وغيره كما أنه لم يكن هناك ما يسمى بـ"المذهب الشافعي" و"المذهب الحنفي" و"بقية الفقهاء" فحين احتاجوا لذلك واجتهد العلماء ودوّنوا اجتهاداتهم اصطلحوا لكل علم اسمًا وقعّدوا القواعد.. ثم انتشر كل علمٍ ونُسِب لأهله، كـ"علم الحديث" و"علم الفقه" و"علم التوحيد" و"علم الأصول" وهكذا.. ولم يكن قبل ذلك كل هذه الأسماء على عهد الصحابة ولم يعرفوا كثيرًا من المصطلحات التي جاءت فيما بعد، فكذلك هو أمر التصوّف والسلوك فكان يُعرف في كل عصرٍ باسم فمرة كان يقال له الزهد، ومرة يقال له التزكية، ومرة يقال له مقام الإحسان، وهكذا استقرّ اسم "الطريقة" أو "التصوّف" لمن سلك ذاتَ المسلك على بصيرة كما جاء في الكتاب والسنة وتفصيل العلماء وأرباب هذا العلم والطريق، ثم ظهر فيما يسمى "كتاب الزهد" لابن المبارك ولابن حنبل رحمهم الله تعالى... إلى أن توسّع هذا العلم وانتشر فدوّنه العلماء من أهله ومنهم أبو القاسم القشيري في "رسالته" والإمام الغزالي في "الإحياء" وغيرهم رضي الله عنهم.
والتفصيل في هذه المسائل واسع ونافع وماتع، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب الذي جعلناه مصدرًا لجوابنا وصدّرنا اسمه في مطلع هذا المقال.
تعليقات