الحمد لله[1] الذي ألهمنا حقائق المعاني ودقائق البيان, وخصّصنا ببدائع الأيادي[2] وروائع الإحسان, أتقن[3] بحكمته نظام العالَم على وفق ما اقتضته الحال, وأورد برأفته فِرق الأنام في طُرُق الإنعام والإفضال, والصلوة والسلام على نبيّه محمّد[4] خير من نَبَع من ضِئضِئ الكرَم والسَماحة, وأشرف من نَبَغ من دَوحَة اللَسَن والفصاحة, وعلى آله وأصحابه
[1] قوله: [الحمد لله] جملة اسميّة معدولة عن الفعليّة للدلالة على الدوام والثبوت والأصل أحمد حمداً لله, واللام في الحمد للاستغراق أو للجنس, وفي لله للاختصاص وسيأتي تحقيقه. قوله ألهمنا أي: أعلمنا. قوله حقائق المعاني أي: مسائل علم المعاني. قوله ودقائق البيان أي: مسائل علم البيان من دقّ الشيء صار دقيقاً غامضاً, وإنّما خصّ الدقائق بالبيان لأنّ في البيان زيادة ليست في المعاني, ولا يخفى ما في ذكر أسامي الفنون وكتبها واصطلاحاتها في ديباجة الكتاب الذي صنِّف في تلك الفنون من براعة الاستهلال كالمعاني والبيان والبديع و"المفتاح" و"الإيضاح" و"دلائل الإعجاز" والحال والمقام.
[2] قوله: [ببدائع الأيادي] الباء داخلة على المقصور كما في قوله تعالى: ﴿يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۗ﴾, [آل عمران:٧٤] والبدائع جمع بديعة بمعنى غريبة, والأيادي جمع اليد بمعنى النعمة مجازاً مرسلاً, والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي: بالأيادي البدائع, وفيه إشارة إلى الفنّ الثالث وإنّما لم يذكره صريحاً كالفنّين الأوّلين إشارة إلى أنه خارج عن البلاغة تابع لها. قوله وروائع الإحسان الروائع جمع رائعة بمعنى مُعجِبة, والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي: وعطيّات روائع, وأفرد الإحسان رعاية للسجع.
[3] قوله: [أتقن إلخ] أي: أحكم, صلةٌ بعد صلة وترك العطف لئلاّ يوهم بالتبعيّة المُخِلَّة بالمقصود وهو الإشارة إلى أنّ كلَّ واحد من الإلهام والإتقان محمود عليه بالاستقلال, والنظام ما ينظم به اللؤلؤ والمراد هنا ما ينتظم به أمور العالم, والإيراد الإدخال, والرأفة الرحمة, والفِرَق جمع فرقة وهي الجماعة, والأنام اسم جمع بمعنى الأناس, وإضافة الطرق إلى الإنعام من قبيل لجين الماء, والإفضال عطف تفسير.
[4] قوله: [محمّد] عطف بيان لـنبيّه. قوله خير صفة لـمحمّد, والنبوع الخروج يقال نبع الماء, والضئضئ الأصل, والسماحة الجود وعطفها للتفسير, والنبوغ الظهور, والدوحة الشجر العظيم, وعطف الفصاحة للتفسير, والمراد بالضئضئ والدوحة آدم وإبراهيم أو إسمعيل على نبيّنا وعليهم السلام.