الاتحاد قوة | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم السبت،19-سبتمبر-2020

الاتحاد قوة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاة وأكملُ التَّسليم على سيِّدنا محمد خير الخلق أجمعين،
وعلى آله وصحبه ومَن سار على نهجه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

الاتحاد قوة للمخلوقات جميعاً:

لَمَّا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، صوّره فأحسن تصويره، ووهب له عقلاً حرَّاً، وقلباً سليماً، يُدرك بهما معاني الجمال والقبح، والخير والشَّر، والحقّ والباطل، وغير ذلك من معانٍ فكرية، وسلوكيَّاتٍ أخلاقية، ونُظُمٍ ومبادئ تربوية واجتماعية... يُدرك كلَّ هذا ما دام على الصِّبغة الحسنة، والفطرة السَّليمة التي فطره الله تعالى عليها، وما لم تتلوث فطرته بشذوذ الأفكار والمعتقدات، وبقبيح الميول والتَّصرُّفات.

ومن المبادئ العظيمة التي اتَّفق العقلاء على صوابيَّتها، وعلى جميل آثارها وثمارها، منذ أن وطئت الأرضَ قدمُ الإنسان، وإلى هذه اللحظة؛ مبدأ " الاتِّحاد قوَّة " هذا المبدأ العظيم وهذه القاعدة السَّامية، التي جاءت الشرائع السماوية كلّها بترسيخها، وبالدَّعوة إليها والتَّمسُّك بها.

وذلك لأنّها من مقتضيات الفطرة، بل من أبجديات خلق الكون وما فيه!

فالبناء الشامخ الذي يُبهرنا بجماله وتناسقه وتماسكه؛ ما هو إلّا آلافٌ من اللبِنَات المُتراصفة المُتراكبة، صُفَّت فوق بعضها بهندسةٍ عجيبة، مكوِّنةً بناءً قويَّاً يقي ساكنيه حرَّ الصَّيف وقرَّ الشِّتاء.

وقرصُ العسل الذي نلتذُّ بمذاقه، ويُدهشنا حسنُ صنعه وإتقانه، لم يكن يوماً ما من صنع نحلةٍ واحدة! وإنّما نتاج آلاف النَّحلات، اتَّحدنَ على ذلك بتعاون فريد، وبهمَّة مذهلة يُضرب بهنَّ المثل لذوي الأبصار.

والسَّيلُ العَرِم الجبَّار، الذي جعله الله تعالى آيةً من آياتِ قهره وجبروته، يُصيبُ به مَن يشاء ويصرفهُ عمَّن يشاء، ما هو إلّا مليارات من قطرات المطر الكثيف المتواصل، ولو كان طلَّاً خفيفاً ضعيفاً، لما كان له هذا الأثر الجارف، وهذه القوَّة المُدمِّرة!... وهكذا.

والكونُ مشحونٌ بأسرارٍ إذا *** حاولتَ تفسيراً لها أعياكَ

وإذا كان هذا في الموجودات غير العاقلة؛ فحقيقٌ أن يكون في الإنسان العاقل المُكلَّف، الذي شرَّفه الله تعالى وكرَّمه، وجعله خليفةً في الأرض يعمرها وفق ما يُرضيه جلَّ وعلا،
فكان بالاتحاد قوة للجماد والحيوان أفلا يكون الاتحاد قوة لذوي العقول والأرواح!

الاتحاد والتعاون في القرآن والسنة الشريفة:

ولهذا ولغيره، أمر سبحانه في محكم تبيانه بالاتّحاد والاعتصام والتّعاون، فقال تعالى:
وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ...لأنَّ الاتّحاد قوّة وثبات، والتَّفرُّق ضعف وشتات وإنَّما يأكل الذِّئب من الغنم الشَّاة القاصية والنَّائية وقد ورد في الحديث: إنَّ الشَّيطانَ ذِئبُ الإنسانِ كذِئبِ الغَنمِ، يَأخُذُ الشّاةَ القاصيةَ والنّاحيةَ، فإيّاكم والشِّعابَ، وعليكم بالجَماعةِ والعامَّةِ والمسجدِ. (أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى:٢٢٠٢٩)
وأيضاً: المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بيْنَ أَصابِعِهِ. (أخرجه البخاري :٢٤٤٦)

والمؤمن ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بإخوانه، يستمدُّ قوَّته وتماسكه وثباته منهم، يّؤثِّر ويتأثَّر، إيجابيٌّ في كلِّ شؤونه، لا يُكتفى منه أن يعيشَ لنفسه، وإنَّما لدينه وأمُّته وبني الإنسان كافّة.

من معاني القوة في الاتحاد: مساعدة الآخرين:

وهذا المعنى الرفيع حين يشبّه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين كالجسد الواحد بمشاعر المودة والرحمة والعطف وكذا التضامن في السهر والحمى، ووصفتهم بأنهم كالبنيان الذي يشدُّ بعضه بعضاً، وهذه الأوصاف ناشئة عن قوة ثمرة الاتحاد حين تفْهمها الشعوب المسلمة، وتختلط بدمائهم، وعندها سنلتفت إلى الفقير بالعطف، وإلى المحروم والسائل بالشفقة والإحسان، وإلى المسرف على نفسه بالنصح والإرشاد؛ لا بالتوبيخ والسخرية؛ لأنه فرد من لحمتنا يقاسمنا الحياة حين نقصر في حق تبيِين كلمة الهدى في حقه، وحق ديننا وجسدنا الواحد الذي يتألم بعضه ويسهر كله، عندها تكون الهمم متوجهة لنصرة الضعفاء ومساعدة الآخرين من المنكوبين الذين سلبت بلادهم وشردوا، والذين أزهقت أرواحهم بغير حق والذين لا يجدون لقمة يقتاتون بها فضلا عن ايجادهم لشيء يسترهم، ويقيهم من شدة البرد أو حرارة الشمس الساطعة في فصل الصيف.

حكمة رجل مع أولاده يعلّمهم الاتحاد قوة والتفرق ضعف:

وما أعظم حكمة ذلك الرَّجل الذي شارف على الموت، وأحبَّ أن يختمَ حياته بوصيّة خالدة يوصي بها أبناءه، تكن لهم من بعده منهاجاً ينتهجونه، وطريقاً قويماً يسلكونه لا يحيدون عنه قِيد أُنملة فأعلمهم أن الاتحاد والتعاون قوة ونجاح:
فقد جمع أبناءه وأعطاهم تباعاً حزمةً من السِّهام، وطلب منهم أن يكسروها، فما استطاعوا، فأخذها وفرَّقها آحاداً بينهم، فكسر كلّ واحد منهم سهمه بكلِّ يُسرٍ وسهولة، فأدركوا حكمة أبيهم، وعِظَمِ مقصده، ورمقوه رمقة الإجلال والامتنان، فقال لهم كلمات خلَّدها الدَّهر في وصايا العظماء:

كونوا جميعاً يا بَنيَّ إذا اعترى *** خطبٌ ولا تتفرَّقوا آحادا
تأبى الرِّماح إذا اجتمعنَ تكسُّراً *** وإذا افترقنَ تكسَّرت أفرادا
(المهلب بن أبي صفرة)

فعلينا أن نستعيد مجدنا بلحمة الصف، من خلال الاتحاد والتعاون ، وبنصرة المظلوم، وبإعادة هيكلة التعليم في مؤسساته العامة والخاصة، ولنتكاتف في جميع الأعمال الإجتماعية التطوعية التي تحافظ على ترابطنا الروحي قبل الجسدي و تعمل على سد حاجة الأفراد، والبحث عن أصحاب العاهات، وتوفير المستلزمات الصحية والخدمية لهم.

وبفضل الله تعالى فإن مركزنا مركز الدعوة الإسلامية يسير مع أبنائه ورواده بحرص على التعاون والاتحاد في نشر الخير بين الناس ومساعدة المحتاجين، وهداية وإرشاد الشباب بالنصح والاهتمام، ولذلك فإن ثمرات هذا التعاون المحمود أثمرت الخير الكثير في الأمة المسلمة حتى تعدّت خيراتُ وأهداف المركز لغير المسلمين فأصبح المركز مِشعلَ نورٍ، ومنارة هدى في الشرق والغرب، تهوي إليه أفئدة الناس يسألون عن الإسلام؛ فينير المركز لهم الطريق، ويسهل لهم التعليم، ويجمعهم في صفٍ واحد في إحياء سنن هذا الدين، ونشر محبة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.

فالاتّحاد والتعاون مبدأ إسلامي، وفطرة إنسانية، وقاعدة اجتماعية وأخلاقية لا ينأى عنها إلّا مَن لم يفهم دينه، وإلّا مَن أخذت الأنانية والأثرة بمجامع عقله وقلبه، وقاده هواه فأضلَّه وأعماه، ينطبق هذا على الفرد والمجتمع، وعلى الأسرة وحتى المؤسّسات والحكومات والشُّعوب والدّول... وما أجمل قول بعضهم:

يا ربِّ وحِّد صفوفَ المسلمينَ ولا *** تخذلهمُ باختلافِ الرَّأيِ والكَلِمِ
وارزقهمُ النَّصرَ والتَّوفيقَ وابْنِ لهم *** منَ التَّآلفِ مجداً شامخَ القِمَمِ
وزجْنا فى فراديس العلا كرماً *** فماعهدناك إلا واسعَ الكرم
صلى ربى على الهادي وعتْرته *** والآل والصحب والاتباع كلهم

تعليقات



رمز الحماية