جهود علماء الهند في خدمة الحديث النبوي ﷺ | أبو أمجد أحمد رضا العطاري المدني


نشرت: يوم الخميس،28-ديسمبر-2023

جهود علماء الهند في خدمة الحديث النبوي ﷺ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الّذي أكملَ لنا الدِّين، وأتمّ علينا النّعمة، وبعث فينا رسولاً مِنَّا يتلو علينا آياتِه، ويزكِّينا ويعلِّمنا الكتابَ والحكمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله، أرسله للعالمين رحمة، وفوّض إليه بيانَ ما أُنزِلَ إلينا، فأوضحَ لنا كلَّ الأمور المهمّة، وعلى آله وصحبه الذين اختارهم لأفضل أنبيائه وزراء ونقباء وخلفاء، من اقتدى بأحدهم اهتدى، ومن ترك سبيلهم ولم يتمسّك بسننهم استحق النار والظلمة، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم، وساروا في نصرة دينه سيرًا حثيثًا، واتبعوهم بإحسان على مرّ الدهور والأزمنة، وخدموا هذا الدين بكلّ ما يملكون إلى زمننا هذا مع قوّة الإرادة وعلوّ الهمّة، فرضي الله عنهم وأرضاهم فهو صاحب الفضل والمنّة.

المصدر التشريعي الثاني

أما بعد: فإنّ السنّة هي المصدر التشريعي الثاني من المصادر المتفق عليها لدى المسلمين بعد كتاب الله عزوجل فهي أصل من أصول الدين تعرفنا حكم الله سبحانه وتعالى في كل كبير وصغير، وهي جامعة مانعة عامّة شاملة، لا تفوتها شاردة ولا واردة إلا وقد أعطتها حكما شرعيا.

ذلك أنّ رسول الله ﷺ هو المبلغ عن ربّه

ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ ٥ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ ٦ [ يس: ٦ ]،

وهو المبين مراد الله عزّوجلّ فيما أنزل:

وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]،

فالسنّة المطهرة تأكيد لما بيَّن كتابُ الله من أحكام، وتفصيل لما أجمل، وتقييد لما أطلق، وتخصيص لما هو عام، أو تشريع لما سكت عنه القرآن.

وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ للمسلمين من الرجوع إلى ما نقل عنه ﷺ من قول أو فعل أو تقرير والأخذ بما ثبت منه ليعمل به.

ولقد بذل السلف الصالح من العلماء جهودًا مشكورة في خدمة دين الله عز وجل، فدوّنوا لنا أحاديث رسول الله ﷺ في مصنّفات تنوّعت أساليبها واختلف شروطها ملبّين للمطالب التي يتطلّع إليها الباحثون في المراجع.

مساعي علماء الهند

ولا يفوتني في هذا المقام أن أشير إلى مساعي علماء الهند الذين لم يتخلّفوا عن خدمة الحديث الشريف في أيّ فترة من فترات تاريخ الإسلام، وقد شرفت بلاد الهند بخدمة السنة المباركة منذ قديم الزمان، وظلّ هذا الشرف في نصيبها قرنًا بعد قرن إلى يومنا هذا، قال الإمام الفقيه المحقِّق الشيخ محمد زاهد الكوثريّ رحمه الله في "فقه أهل العراق وحديثهم": وفي الهند علماء بارعون في الحديث من أهل المذهب لا مجال لاستقصائهم –كثّر الله أمثالهم-.

وقد أقام الله تعالى نهضة للحديث في ديار الهند على مستوىً عالٍ في البحث والعلم، وذلك على يد علماء الهند الأفذاذ الذين أفنوا أعمارهم في خدمة السنّة والتأليف فيها، وقدّموا مساعي ثمينة في هذه الخدمة الجليلة من النواحي المختلفة كتعليم السنّة وشرحها والتّعليق عليها ونشرها وتعميمها وإشاعتها، وكانت لهم أيادٍ بيضاءُ في خدمة السُّنَّة، ومعرفة الرجال، والبحث عن العلل، وتعدّ مؤلفات علماء الهند في الحديث وعلومها ذخيرة علمية قيّمة تُمدُّ العلوم الإسلامية بمدد دائم.

وهذه هي الكتب الحديثية والشروح الكبيرة شاهد صدق على ما نهضوا به في هذا العلم، وما أسدّوا إليه من خدمات جليلة: من أمثال كتب الشيخ المحدّث عبد الحق الدِّهْلَوي ثم أولاده وأحفاده ومن تخرّج على طريقته ومدرسته مثل: "المقدمة في أصول الحديث" وغيرها من الشروحات الحديثية.

* ومنها شروح نزهة النظر ونخبة الفكر مثل:

_ "شرح نزهة النظر" للشيخ وجيه الدين العلوي الغجراتي.

_ "إمعان النظر شرح شرح نخبة الفكر" للعلامة القاضي محمد أكرم اَلسِّنْدِيّ.

_ "بهجة النظر شرح نخبة الفكر" لأبي الحسن محمد صادق اَلسِّنْدِي.

_ "عقد الدرر في جيد نزهة النظر" للشيخ المفتي عبد الله التونكي.

* ومنها "كوثر النبي في الحديث النبوي": للشيخ المحقق المحدث الفقيه المتكلم عبد العزيز الفرهاروي.

* ومنها كتب الإمام المحدّث الفقيه أحمد رضا خان الحنفي الماتريدي (المتوفى:1340ﻫ) فله في ذلك: "الهاد الكاف في حكم الضعاف" و"الفضل الموهبي إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" وغيرها من التعليقات والإفادات القيّمة على كتب الحديث والرجال التي تدلّ على غزارة علمه ودِقّة نظره في علوم الإسلام، وقد استجاز منه كبار علماء العرب وقد رقمت أسماءهم في ثبته "الإجازات المتينة لعلماء بكة والمدينة".

وقال علماء العرب عنه "إمام المحدثين، إمام الأئمّة، المجدد لهذه الأمّة أمر دينها" في تقريظهم على كتابه :"الدولة المكية". (انظر كتاب "الدولة المكية بالمادة الغيبية" من صفحة 138 إلى 239) .

* ومنهم الشيخ المحدّث المتكلّم محمد ظفر الدين البِهاري (المتوفى:1382ﻫ) "جامع الرضوي" ومقدمته العلمية هي رسالة مستقلّة في علوم الحديث.

* ومنها كتب المحقّق المحدّث العلامة أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي مثل: "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" و"ظفر الأماني" وغيرها من الكتب القيّمة.

هذه بعض شروحهم لكتب السنة، وتآليفهم كثيرة غزيرة تقوم بالواجب المطلوب، ألا وهو تمييز الحديث الصحيح والحسن عن غيرهما ونفي الكذب والواهي عن الحديث.

بل في الهند من هؤلاء الأعلام رجال لا يكتمل تاريخ علوم السنّة بدون ذكر أسمائهم، وكان من أشهرهم:

_ الشيح حسن بن محمد الصغاني اللاهوري الحنفي محدث، وفقيه لغوي، مشارك في بعض العلوم، صاحب"مشارق الأنوار النبوية من صحاح الأخبار المصطفوية" و"تبين الموضوعات".

_ ومنهم الشيخ علي بن حسام الدين بن عبد الملك الجونبوري الهندي، الشهير بـ"المتّقي" صاحب "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال"، و"المواهب العلية في الجمع بين الحكم القرآنية والحديثية".

_ ومنهم الشيخ عبد الحق بن سيف الدين بن سعد الله البخاري، الإمام، العالم، العلاَّمة، المحدِّث، ذكر في كتاب "فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني" عن شخصيته:

هو محدّث الهند العلاّمة المسند صاحب المؤلّفات العدّة، وهو أوّل من جاء بالحديث لإقليم الهند وأفاضه على سكّانه في أحسن تدريج (فهرس الفهارس والأثبات للكتاني: ٢/٧٢٥)، وله مصنفات كثيرة ما بين رسائل صغيرة وتحريرات واسعة، قيل: قد بلغت مصنفاته مئة مجلد بالعربية والفارسية، منها:

_ "لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح" بـ العربية.

_ "أشعة اللمعات في شرح المشكاة" بـ الفارسية.

_ "فتح المنان في إثبات مذهب النعمان" بـ العربية..

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن معظم الهند ينتشر فيها عمومًا مذهب الفقه الحنفي، ومن هنا اهتمّت المدارس الإسلامية في الهند بتعليم الفقه الحنفي، وقد شعر العلماء الأعلام وأئمّة الإسلام إلى ضرورة تأليف موسوعات حديثية مستقلّة تجمع بين دفّتيها تلك الأحاديث والسنن التي كانت مستندًا في استنباط المسائل الفقهية وفق الأصول الحنفيّة خصوصًا في تلك الظروف المشوِّشة التي كانت قد كثرت فيها الدعايات والنعرات من اللامذهبيين الذين ينتقدون فقه المذاهب الأربعة بشدّة، ويرون في اتّباع أحد هذه المذاهب خروجًا عن اتّباع القرآن والسنة، يقول الشيخ عبد الحق المحدّث الدهلوي في مقدمة "فتح المنان في إثبات مذهب النعمان":

قد وقع في ذهن بعض القاصرين عن إدراك الحق وتوهّموا أن بناء مذهب أبي حنيفة على الرأي والاجتهاد مخالفًا للأحاديث بالاستقلال والاستبداد، وليس الأمر كذلك؛ لأنه رضي الله عنه يقدّم أقسامًا من الحديث على القياس، ويعمل بالحديث وإن كان ضعيفًا كحديث القهقهة والتوضّي بالنبيذ مع ما فيهما من الضعف والالتباس، وجوّز نسخ الكتاب بالمشهور من الحديث المأثور، وعمل بالمراسيل من غير توقّف وتأويل.

ومن هنا اهتمّ العلماء من أعلام الأحناف بدحض الفرية القائلة بأن مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه مبنيّ على مجرد الرأي والقياس المحض وسعوا في إبطال هذا الافتراء بطريق عملي تمثل في ترتيب مؤلفات متخصّصة تحتوي على سنن وروايات وأحاديث تؤيد الفقه الحنفي:

- وهذا ما عمله الإمام الطحاوي في "شرح معاني الآثار".

- والشيخ ملا علي القاري في "فتح باب العناية شرح النقاية".

- والإمام الزيلعي في "نصب الراية"، وهو المنهج الذي انتهجه الشيخ المحدث عبد الحق الدِّهْلَوي (المتوفى:1052ﻫ) في تأليفه "فتح المنان في إثبات مذهب النعمان"،

- والشيخ المحدّث الأديب السيد محمد مرتضى الزَّبِيْدِي الحسيني البَلْجِرامي (المتوفى:1205ﻫ) في كتابه "عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإمام أبي حنيفة".

قال في مقدمته مبينًا مقصد تأليفه:

قصدت بهذا التأليف الردّ على بعض المتعصّبين ممن اعتسف عن واضح المشارع ونسب إلى إمامنا أنه يقدّم القياس على النص عن الشارع ولعمري هذه النسبة إليه غير صحيحة.

- والشيخ المحدث المتكلّم محمد ظفر الدين البِهاري (المتوفى:1382ﻫ) في "جامع الرضوي" المعروف بـ "صحيح البهاري".

قال في مقدمته: أردتّ جمعه وترتيبه وتأليفه وتبويبه حاويًا لعقائد أهل السنة والجماعة وكافيًا لفروع إمام الأئمة مالك الأزمّة إمامنا الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت جعلنا الله ببركته ممن يثبّتهم الله بالقول الثابت.

- والشيخ الشريف أبو الحسنات عبد الله بن مظفّر حسين الحَيْدَر آبادي (المتوفى:1384ﻫ) في "زجاجة المصابيح" وهو على منوال مشكاة المصابيح لكنه في أدلّة فقه الحنفية وشرحها، حيث قال في مقدمته:

لما سلك الخطيب في "مشكاة المصابيح" مسلك الإمام الشافعي رضي الله عنه كثيرًا ما كان يختلج في قلبي أن أؤلّف كتابًا على منوال المشكاة أسلك فيه مسلك إمامنا الأعظم أبي حنيفة النعمان عليه الرحمة والرضوان، وقد سلك هذا المسلك أحد محدّثي الهند في القرن الرابع عشر الهجري وهو الشيخ العلامة المحدث أبو الخير محمد بن علي النَّيْمَوي المدعو بـ (ظهير أحسن) في كتابه "آثار السنن".

فجهودهم عظيمة، وخدمتهم للسنة مشهورة، ولا يستغني طلبة العلم والعلماء عن الرجوع إلى كتبهم وإلى مؤلّفاتهم، فإن فيها الخير الكثير وفيها العلم الغزير، فهؤلاء العلماء الكبار الجهابذة المحقّقون الذين عندهم العناية الفائقة بالعلم، وعندهم الهمة العالية، وقد حصل على أيديهم الخير الكثير، والنفع العظيم للإسلام والمسلمين، فجزاهم الله عز وجل عن خدمة الحديث النبوي أحسن ما جازى به أحبارَ ملَّةٍ وعلماءَ أمَّة وأثابهم خيرَ العَطَاء في الدنيا ويوم القيامة، وجعل الله تعالى كتبهم أعلامًا من أعلام الإسلام ورفع الله درجتهم في دار السلام، ونرجو من فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبّل منهم هذا الجهد المشكور، وأن ينفع به العباد والبلاد، فإنه جواد كريم رؤوف رحيم.

أختم كما بدأت بحمد الله تعالى على إتمام النعمة وإكماله الرحمة، فله الشكر والثناء الحسن، والله الكريم أسأل أن يتقبل هذا العمل، ويكتب له القبول والتمكين، والحمد لله رب العالمين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة
#مجلة_فصلية

تعليقات



رمز الحماية