الدخيل في التفسير (الجزء الأول) | محمد أحمد رضا العطاري المدني


نشرت: يوم السبت،17-مايو-2025

الدخيل في التفسير (الجزء الأول)

إن القرآن هو الأصل الأصيل للدين العام الخالد الباقي ما بقي إنسان على وجه هذه الأرض، وهو الإسلام، فكان لا بد من المحافظة على كتابه وصونه من دخل الدخيل، ليخلد خلود هذا الدين الذي يعتبر القرآن أصلاً له، وحينما يسمع الإنسان كلمة "دخيل" يتبادر إلى ذهنه كلمة "أصيل"، وبيانهما هنا فى غاية الأهمية؛ لأننا لا نستطيع أن نقف على الدخيل فى التفسير إلا إذا وقفنا على الأصيل فيه.

وكلمة "الأصيل" لغة تطلق على عدة معان يجمعها قدر مشترك، وهو: ما له أساس متين، وأصل ثابت مكين، أما فى مجال التفسير فيطلق على:

* ما ثبت عن طريق القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين ثبوتا مقبولا.

* وما ورد عن طريق التفسير بالرأي المحمود.

الدخيل لغة واصطلاحًا:

أما الدخيل لغةً:

فمِن "دَخل يَدخل دخولاً"، والدخول نقيض الخروج، ويطلق في اللغة أيضًا على عدة معان، يقول ابن منظور:

الدّخل: ما داخل الإنسان من فساد في عقل، أو جسم.

والدّخل: العيب الداخل في الحسب، وفلان دَخيل في بني فلان: إذا كان من غيرهم فتدخّل فيهم، كالضيف إذا حلّ بالقوم فأدخلوه فهو دخيل، وعلى ذلك فالدخيل لغة: يطلق على ما ليس له أصل ثابت، ولم يقم على أساس متين أو ركن ركين، وهو الأمر الطارئ الذي تسلل إلى غيره من خارجه، ولا يتوافق مع ما طرأ عليه (لسان العرب: 11/241).

والدخيل اصطلاحًا:

هو التفسير الذي ليس له أصيل في الدين، وهو الذي تسلل إلى رحاب تفسير القرآن على حين غرة أو غفلة من الزمن بفعل مؤثرات معينة بعد وفاة الرسول ﷺ، وهذا يشمل ما كان من جهة التفسير بالمنقول، وما كان من جهة التفسير بالرأي.

أقسام الدخيل في التفسير:

فإننا نستطيع أن نقسم الدخيل إلى "دخيل في المأثور" و"دخيل في الرأي"، ونقول:

* إن الدخيل في المأثور هو ما نسب كذبًا إلى الرسول ﷺ، أو إلى صحابي، أو تابعي، أو ما ثبتت روايته عن صحابي أو تابعي، ولكن هذه الرواية فقدت شروط القبول.

* وأيضًا ما تعارض من أقوال الصحابة أو أقوال التابعين مع القرآن أو السنة أو العقل تعارضًا حقيقيًا لا يمكن الجمع بينه وبين هذه الأشياء.

* والإسرائيليات المخالفة للقرآن والسنة، وكذلك التي يعبر عنها بالمسكوت عنه، حيث لا مؤيد لها ولا مخالف لها في شرعنا.

والدخيل في الرأي: ما صدر عن رأي فاسد، لم تتوافر فيه شروط التفسير بالرأي المحمود، وتتعدد أنواع الدخيل فى الرأي وفقًا لسبب الخطأ في التفسير بالرأي، فهذه الأسباب متعددة يأتي على رأسها:

* تفسير القرآن مع فقد شروط وأدوات وعلوم المفسر.

* العدول عن مذاهب الصحابة والتابعين.

* التفسير بمجرد الرأي والهوى.

* الخروج عن القواعد المألوفة فيها.

* ومنها التحريف لنصوص الشرعية عن مواضعها، وتعطيلها وصرفها عن ظواهرها.

* والتكلف والتنطّع في التوفيق بين النصوص القرآنية وفي استخراج معان من بطون النصوص دون دليل عليها.

* والأخذ بظاهر المنقول، دون النظر إلى ما يليق بذاته تعالى وما لا يليق.

مراتب التفسير ومصادره عند المفسرين

تفسير القرآن على وجه القطع لا يُعلم إلا بأن يُسمع من الرسول ﷺ، وذلك متعذر إلّا في آيات قلائل؛ لأن التفسير المرفوع قليل جدًّا بنسبة ما نقل في الأحكام وغيرها من الأمور، فحينئذ نظر المفسر يتّجه أول ما يتّجه في بيان المراد إلى القرآن ذاته، فإن لم يجد فيه ما يفسر به نظر إلى السنة، فإن لم يجد فيها اتّجه إلى أقوال الصحابة، ثم أقوال التابعين، فإن لم يجد أعمل رأيه وكدّ ذهنه للوصول إلى المراد بعد توافر شروط وأدوات وعلوم المفسر فيه.

جهود علماء الهند في صيانة التفسير وضبط أصوله

وقد تدرّج التفسير بتدرج الحياة، فبدأ قليلًا موقوفًا على المنقول بسنده، ثم حذف السند بدعوى الاختصار ودخل الدخيل، وطعن الناس في المنقول، وقد قام العلماء رحمهم الله تعالى بصيانة تفسير القرآن من الدخيل والتحريف والتبديل خير قيام، وبذلوا أقصى مجهودهم واستفرغوا ما في وسعهم لإبطال المزاعم التي قيلت حول القرآن، وقعّدوا العلوم وأصّلوها وأفردوها بالتصنيف، وقد كان لعلماء الهند البارزين دور كبير في هذا العمل العظيم يطول استقصاؤه جدّا، ومنهم:

"الإمام الشاه ولي الله المحدث الدهلوي" و"الإمام أحمد رضا الهندي" وغيرهما رحمهم الله تعالى.

وقد استخرجت رسالة قيمة من كتب الإمام أحمد رضا الهندي رحمه الله وسميتها: "الأنوار الرضوية في القواعد التفسيرية" طبعتْ مع "الفوز الكبير في أصول التفسير" للشاه ولي الله الدهلوي من بلاد العرب حديثًا، والذي لاحظنا أن هذه الرسالة مَنْ أحسن قراءتَها وفهمَها استطاع أن يتعامل مع كتب التفسير بالمأثور، خاصّة مع أقوال السلف المتنوعة في تفسير الآيات، ويعرف كيف يستفيد منها، فنقتبس منها بعض الأبحاث التي وقعت فيها تلك القواعد والأصول التي توضح لنا كيفية التعامل مع النصوص الواردة في التفاسير.

أحوال التفاسير بالمأثور:

كل من يريد معرفة مراد ربّه من الكلام الرباني القديم يرجع إلى تفاسير القرآن الكريم فيطّلع على كثير من التفاسير المتداولة المحتوية على قناطير مقنطرة من الضعاف والشواذ والواهيات المنكرة من الإسرائيليات والموضوعات فيقف حائِرًا مُتسائلاً هل يجب عليّ أن أعتقد بصحة كل ما ذكر في التفاسير، ولو لم يقبل العقل والنقل؟

أقول: إن الأمر ليس كذلك ولا يجب عليه إلا ما وافق الشرع والنقل والعقل.

* قال الإمام أحمد رضا الهندي رحمه الله المتوفى (1340 ه): ليس كل ما يذكر في أكثر التفاسير المتداولة واجب القبول، وإن لم يساعده منقول ويؤيده معقول.

* وقد قال الإمام الزركشي رحمه الله المتوفى (794 هـ) في البرهان: للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة، (ومنها) الأول: النقل عن رسول الله ﷺ، وهذا هو الطراز الأوّل لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنه كثير (البرهان: النوع الحادي والأربعون الفصل في أمهات مأخذ التفسير، 2/173.).

* وقال الإمام السيوطي رحمه الله المتوفى (911 هـ):

الذي صحّ من ذلك قليل جدًّا، بل أصل المرفوع منه في غاية القلّة (الإتقان: النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر، 2/1205.) ، وكذلك المأثور عن الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان قلائل لهذه الطوامير والذخائر الكِبر، والأقاويل الذاهبة شذر مذر، فيها لا خبر ولا أثر، يقال: ذهبت إبله شَذر مَذَر بَذر إذا تفرقّت في كل وَجْه.

ومعناه: أن المنقول من الصحابة بنقل صحيح قليلٌ جدًّا أمام هذه المجموعة الموجودة في كتب التفسير من اﻷقاويل المضطربة المنقطعة والموضوعة وإنما حدثت بعدهم لَمّا كثرت الآراء، وتجاذبت الأهواء، قام كل لغوي ونحوي وبياني، وكل من له ممارسة بشيء من أنواع علوم القرآن يُفسّر الكلام العزيز بما سمح به فكره، وأدّى إليه نظره، ثم جاء الناس مهرعين، وبجمع الأقوال مولعين فنقلوا ما وجدوا، وقليلاً ما نقدوا، فعن هذا جاءت كثرة الأقاويل، واختلاط الصواب بالأباطيل.

وفي الجملة مَن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا؛ لأنّهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنّهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله. ا ه ملخصاً (الإتقان: النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر، 2/1202.).

* ولذا قال الإمام أبو طالب الطبريّ رحمه الله تعالى في أوائل تفسيره في القول في آداب المفسر، ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي ﷺ وعن أصحابه ومن عاصرهم، ويتجنب المحدثات..إلخ (الإتقان: النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر، 2/1198.).

ويمكن هنا أن نسأل: لماذا لا نعتمد في التفسير على ما نقل عن رسول الله ﷺ فقط؟

والجواب في ذلك أن التفسير المرفوع "وهو الذي لا محيص عن قبوله أبدًا نزرٌ يسيرٌ جدّاً"، أي قليل جدًّا، يعني أن التفسير المرفوع الذي لا بد لنا أن نقبله لم يبلغ إلينا بسند مقبول إلا قليل جدا، لا يبلغ المجموع منه جزء أو جزئين.

والحكمة فيه: إن الله تعالى أراد أن يتفكّر عباده في كتابه، فلم يأمر نبيه ﷺ بالتنصيص على المراد في جميع آياته (الإتقان: النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله، 2/1193.).

كيفية تسرّب الدخيل إلى التفسير:

قد يخطر بالبال كيف تَسرّبت الإسرائيليات والموضوعات إلى التفسير مع الحيطة البالغة من العلماء في الأخذ والرواية؟

لقد أجاب السيوطي رحمه الله عن هذا بعد ما ذكر تفاسير القدماء:

ثم ألّف في التفسير خلائق فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بَتْرًا، فدخل من هنا "الدخيل"، والْتَبَس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من يَسْنَح له قول يُورِده، ومن يخطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ظانًّا أن له أصلاً غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن يرجع إليهم في التفسير.

وفي "المقاصد" و"البرهان" و"الإتقان" وغيرها عن الإمام الأجل أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه قال: "ثلاث كتب ليس لها أصول "المغازي" و"الملاحم" و"التفسير" (المقاصد الحسنة: تحت الحديث:١٣٥٦، صـ ٤٨٦)، (البرهان، النوع الحادي والأربعون، 2/173)، (الإتقان: النوع الثامن والسبعون، 2/1204)..

قلت: وهذا إن لم يكن جاريًا على إطلاقة لما يشهد به الواقع، إلا أنّه لم يقله لو لم ير الخلط غالبًا عليها كما لا يخفى، وهذا في زمانه فكيف بما بعده.

وفي التفسير من هذه الموضوعات كثيرة، كما يرويه الثعلبي المتوفى (427 هـ) والواحدي المتوفى (468هـ) والزمخشري المتوفى (538هـ) في فضل السور.

والثعلبي في نفسه كان ذا خير ودين، ولكن كان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.

والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية لكن هو أبعد عن اتباع السلف.

والبغوي المتوفى (510هـ) تفسيره مختصر من الثعلبي لكن صان تفسيره من الموضوع والبدع.

وفيه عن جامع البيان لـمعين بن صيفي: قد يذكر محي السنة البغوي في تفسيره من المعاني والحكايات ما اتفقت كلمة المتأخرين على ضعفه بل على وضعه (مجمع بحار الأنوار: نوع في تعيين بعض الوضاع وکتبهم، 5/231.).

وفيه عن الإمام أحمد أنه قال: في تفسير الكلبي (قوله: [الكلبي] محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي،المفسر، متهم بالكذب، ورمي بالرفض، توفي سنة 146ﻫ. (تقريب التهذيب: ٢/٥١٧)) من أوله إلى آخره كذبٌ، لا يحل النظر فيها (مجمع بحار الأنوار: نوع في تعيين بعض الوضاع وکتبهم، 5/230.).

وقد عدّ الخليلي المتوفى (446هـ) في الإرشاد أجزاء قلائل من التفسير صحّت أسانيدها، وغالبها بل كلها لا توجد الآن، اللهم إلا نُقولٌ عنها في أسفار المتاخرين.

وقال: فأما ابن جريج (قوله: [ابن جريج] عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، مكي المولد والوفاة, ثقة فقيه, وكان يُدلِّس ويُرسِل, توفي سنة 150ﻫ. (تقريب التهذيب: ١/٣٦٦)) فإنه لم يقصد الصحّة، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم.

وتفسير مقاتل بن سليمان (قوله: [مقاتل بن سليمان] مقاتل بن سليمان بن بشير الخراساني أبو الحسن, كذّبوه وهجروه ورُمي بالتجسيم, توفي سنة 150ﻫ. (تقريب التهذيب: ٢/٦٠١)) : فمقاتل في نفسه ضعّفوه، وقد أدرك الكبار من التابعين، والشافعي أشار إلى أن تفسيره صالح (الإتقان: النوع الثمانون في طبقات المفسرين، 2/1231.).

قلت: وهذه "معالم التنزيل" للإمام البغوي مع سلامة حالها بالنسبة إلى كثير من التفاسير المتداولة، ودنوّها إلى المشرع الحديثي يحتوي على قناطير مقنطرة من الضعاف والشواذ والواهيات المنكرة، وكثيرًا ما تدور أسانيدها على هؤلاء المذكورين بالضعف والجرح كالثعلبي والواحدي والكلبي والسدّي ومقاتل وغيرهم ممن قصصنا عليك أو لم نقصص عليك، فما ظنّك بالذين لا اعتناء لهم بعلم الحديث، ولا اقتدار على نقد الطيّب من الخبيث كالقاضي البيضاوي وغيره ممن يحذو حذوه، فلا تسأل عمّا عندهم من أباطيل لا زمام لها ولا خطام.

فإن قلت: فأيّ التفاسير ترشد إليه، وتأمر الناظر أن يعوّل عليه؟

قلت: تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري المتوفى (310 هـ) الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلّف في التفسير مثله (الإتقان: النوع الثمانون في طبقات المفسرين، 2/1235.).

وقد أجمع العلماء من الشرق والغرب على عظمة هذا الكتاب وأنه مرجع لا يستغني عنه باحث في التفسير. نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب والدعاء المستجاب وهوخيرمن أجاب.

تعليقات



رمز الحماية