مدونات مختارة
الأكثر شهرة
السيرة النبوية من حيث التشريع | الشيخ أحمد رضا الشامي المدني
هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 19
إنّ المقصود من التشريع (القانون) هو إقامة العدل وبسط الأمن بين الناس، وصيانة الحقوق التي يستحقها كل فردٍ من الأفراد العامة والخاصة.
يندرج القسم الأول في السلطة القضائية، والقسم الثاني في السلطة التنفيذية، إنّ التشريع الذي يلبّي هذه الغاية وبوجه حسن، يكون جديرًا بالثقة، ومحلًّا للتقدير، ومصدرًا للفائدة العامة، ويكتسب احترام الناس ومحبتهم، ومِن ثم مَن وضع هذا التشريع يستحق أن ينال هذا التقدير والاحترام، ويذاع صيته من حيث أنه مقدم الخير للبشرية.
أنواع التشريعات: تنقسم هذه التشريعات بشكل أساسي إلى قسمين رئيسيين من حيث وضعها:
القسم الأول: التشريعات التي وضعها أفراد ينتمون إلى عامة البشر، يتمتعون بمستويات متفاوتة من الذكاء، والمهارة، والخبرة، ثم يصيغون هذه التشريعات باستخدام عقولهم الراجحة ومعارفهم المتنوعة في دراسة وتحليل القوانين المطبقة في شتى أنحاء العالم مع التركيز على تلبية احتياجات سكان منطقة معينة بهدف خدمتها والنهوض بها.
ثم يقومون بإجراء تعديلات عليها بين الحين والآخر وفقا للحاجة، وتسمى هذه التشريعات بـ"التشريعات الوضعية"، أي: أنها من صنع البشر.
القسم الثاني: التشريع الذي وضعه الأنبياء عليهم السلام، وهم يتفوقون على جميع أبناء عصرهم بعلمهم الواسع وحكمتهم العميقة، ويتمتّعون بفهم ناضج وبصيرة نافذة، ويتصفون بصفة العصمة من العيب والخطأ، فيقومون بنشر هذا التشريع المستفاد من كتب الله المنزلة، ويبلغونه إلى العباد بكل دقة وإخلاص لتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، ويُطبّقونه في العالم بأسلوب فعّال وحكمة فائقة مع تطبيقه أولا على نفوسهم، وهذا التشريع يسمى بـ"القوانين الشرعية"، أي: القوانين التي وضعها الأنبياء الكرام عليهم السلام من خلال الوحي الإلهي ويُسمى بـ"الشريعة".
القانون الطبيعي الذي يحكم العالم:
الأنبياء الكرام عليهم السلام شرّعوا القوانين الشرعية المستمدة من الوحي في أزمنتهم لأقوام مخصوصة، ولمناطق محددة، حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ، حاملًا للقوانين المستنبطة من القرآن الكريم، وهو أرفع الكتب، وأعلاها منزلةً، وهو الذي تكفل بالنجاح والفلاح للبشرية إلى يوم القيامة، وأخرجهم من مستنقع الجهل، والضلال، وأعادهم إلى قمم المجد، والسمو، والكمال.
وإن هذه الشريعة المطهرة التي جاء بها النبي ﷺ تسمى بـ"التشريع الإسلامي"، والذي أُسس على الفطرة الإنسانية السليمة، والتوجيهات الإلهية منذ تأسيسه. والقانون الإنساني، رغم مرور آلاف السنين من التقدم والتعديل، لم يصل إلى الدرجة التي بدأ منها التشريع الإسلامي أولى خطواته نحو الكمال والعدالة الشاملة، كيف لا؟ وهذا ما أنزله خالق الأكوان، والذي جاء به هو صاحب التشريع، النبي الأكرم سيدنا محمد ﷺ، الذي يُعتبر قدوة مثالية للبشرية في جميع نواحي الحياة، من العبادات والمعاملات، والأخلاق، والعدل، والقضاء وما إلى ذلك.
وعلى الرغم من أن الله تعالى هو المشرّع الحقيقي، إلا أنه أيضًا ثابت وقطعي بأن النبي ﷺ أيضا صاحب التشريع بما اصطفاه الله تعالى له، ووهبه صلاحيات ذلك بفضله تعالى؛ وذلك من كون أن النبي ﷺ يُصدر الأحكام في الظاهر لكنها في الحقيقة بوحي من الله تعالى، أو باجتهاده ﷺ، وهو لا يخرج عن مراد الله تعالى؛ فالله تعالى قد عصمه من الخطأ والزلل في إبلاغ الشريعة، كما يقول سبحانه وتعالى:
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) [سورة النجم: 3-4[.
أفضل صفات المشرّع:
جاء التشريع الإسلامي وبلّغه النبي ﷺ بما يتناسب مع الفطرة الإنسانية، ويمتد أثره إلى مختلف الأجناس والأقاليم، واتخذ النبي ﷺ إجراءات فعالة لضمان صلاحية الشريعة للتطبيق على مر العصور، ومع تعاقب الأجيال والأحداث إلى يوم القيامة، وانطلاقًا من هذا المقصد، تم تأسيس التشريع الإسلامي مع مراعاة أسس محورية تُظهر شموله وكونه صالحًا لكل زمان ومكان، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى تأمل.
دعونا لنستعرض بعض الأحكام التي شرّعها النبي ﷺ فيما يلي
التشريع القائم على مبدأ المساواة:
تتمثل روعة تشريعات النبي ﷺ في احتوائها على مثال حي يعكس المساواة العملية بين جميع البشر، فالإسلام أعاد للناس كرامتهم بالمساواة في الحقوق، ولا شك أن المساواة هي أعظم وأساس مبدأ في العدالة، بل هي قاعدةُ بنيانها، ولقد جعل رسول الله ﷺ المسلمين متساوين طبقا للتشريع الإسلامي، مهما اختلفت ألوانهم أو لغاتهم أو أنسابهم أو أوضاعهم الاجتماعية، قال الله تعالى في القرآن الكريم:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات: 13].
فلا ميزة لأحد بسبب العرق أو اللون، وهذا ما صرّح النبي ﷺ في خطبته يوم حجة الوداع، فقال:
يا أيُّها النّاسُ! ألا إنَّ ربَّكم واحِدٌ، وإنَّ أباكم واحِدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ؛ إلّا بالتَّقْوى (مسند أحمد: 23489).
وقد طبّق النبي ﷺ هذا القانون العادل على نفسه في حياته العملية، كما نرى في قضية المرأة ذات الحسب والنسب التي سرقت، فأصدر ﷺ حكمًا تاريخيًا خلدته البشرية، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
"أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتي سَرَقَتْ، -أي: أصابهم القلق، وأخذوا في البحث عن طريق لحمايتها من إقامة الحد عليها- فَقالوا: مَن يُكَلِّمُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ، ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلّا أُسامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَلَّمَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قامَ فَخَطَبَ، قالَ: يا أيُّها النّاسُ، إنَّما ضَلَّ مَن قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ الضَّعِيفُ فيهم أقامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ ﷺ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَها" (صحيح البخاري: 893).
أحكام الذبح والقتل:
قال رسول الله ﷺ:
"إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" (صحيح مسلم: 6045).
لقد حفظ رسول الله ﷺ حقوق الإنسان حفظًا تامًا، ولم يخص برحمته وتعاليمه التعامل مع بني البشر فحسب، بل وسّعها لتشمل جميع المخلوقات، فكان يعامل الحيوانات برقة وعطف، وأمر بعدم تعذيبها، وأوجب الإحسان إليها حتى في حالة الذبح، محافظًا على راحة الحيوان وكرامته. وكذا إذا حُكم على المجرم بالقتل كعقوبة في سبيل إصلاح المجتمع الإنساني، فلا ينبغي أن يُلحق به أي ألم أو تعذيب بلا ضرورة، بل يجب أن يُعامل برأفة وإنسانية تحفظ كرامته.
تشريعات النبي ﷺ في ساحة القتال:
إن إسهامات الرسول ﷺ التشريعية لم تقتصر على الظروف الطبيعية، بل امتدت لتشمل ظروف الحرب بقواعد قانونية تُعجز القوانين المعاصرة لحقوق الإنسان عن الإتيان بقرين لها، فعندما كان الرسول ﷺ يرسل الجيش للحرب، كان يوجه تعليماته إلى أمير الجيش، وها هي مثلا كما وردت في الحديث:
"اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا" (صحيح مسلم: 1731).
يبرز هذا الحديث الشريف بوضوح عميق حرص النبي ﷺ على حماية حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي.
التيسير ورفع الحرج في التشريع الإسلامي:
حرص النبي ﷺ على أن يكون التشريع الإسلامي رحمة للأمة، بعيدًا عن كل ما يسبب لهم مشقة وإرهاقًا، كما أمر النبي ﷺ معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما حين بعثهما إلى اليمن بعد ما فوّض إليهما مسؤولية الأمور الدينية، ققال:
"يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" (صحيح البخاري: 3038).
إثارة روح المسؤولية:
تُثبت أحكام النبي ﷺ هذا الوعي في قلوب جميع أفراد المجتمع وفي عقولهم:
"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (صحيح البخاري: 3904).
فحين يُدرك كل عضو في المجتمع واجباته سيعم السلام والازدهار في الجهات كلها.
العزيمة والرخصة في التشريع الإسلامي:
بيّن النبي ﷺ في أداء الأحكام الشرعية نوعين: العزيمة، والرخصة، ليختار المكلف ما هو الأنسب له، ويتصرف فيه حسب استطاعته وظروفه. ومن أخلاقه ﷺ أنه كان دائماً يختار ما فيه الرفق والسهولة لأمته، فإذا خيّر بين أمرين، اختار الأيسر منهما، بشرط ألا يكون مخالفا لشرع الله تعالى، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تقول:
"مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (صحيح البخاري: 5775).
وكان من هدي النبي ﷺ العملي في مسائل العبادات والمعاملات، أنه إذا كانت المسألة تحتمل أكثر من وجهٍ مشروع، نَوَّع في أدائها بحسب مقتضى الحال، تيسيرًا على الأمة، ورفعًا للحرج، وبيانًا لجواز العمل بكل وجهٍ منها، ليتحقق مقصد التوسعة ومرونة الشريعة في التطبيق العملي.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الحياة، آمين بجاه خاتم النبيين ﷺ.
تعليقات