التفكر في الآخرة | شيخ طارق


نشرت: يوم السبت،12-أكتوبر-2019

التفكر في الآخرة

بكى سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مرةً بين أصحابه فسُئِل عن سبب بكائه فقال: فكّرتُ في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرتُ منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدّرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لِمَن اعتَبَر إنَّ فيها مواعظ لمن ادَّكر.(تفسير ابن كثير: ٢/ـ١٦٣)

أهمية التفكر في الآخرة:

يروى عن مُحَمَّد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى أنَّه كان يقول: «لَأن أقرَأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زُلزِلَت" و"القَارِعَة" لا أزِيدُ عليهما، وأتردَّدُ فيهما وأتفكَّرُ، أحَبُّ إليَّ من أن أهُذَّ القرآنَ ليلتي هذًّا» أو «أنثُره نثرًا». (أهُذُّ أي: أقرأه بسرعة)(الزهد لابن المبارك: صـ٩٧)

ولو سألناه لماذا هاتين السورتين يا محمد بن كعب؟ لكان الجواب واضحاً بأن هاتين السورتين من السور التي تتحدث بصراحة عن أهوال يوم الآخرة بل إنّ سورة القارعة هي من أخوات سورةٍ شيَّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهي سورة هود.

إنّ الآخرة ميعادٌ يخافه حتى من ينكره أو لا يؤمن به، كيف لا وهو بالنسبة للمنكرين مجهول ينكرونه بالظنون، ولكنهم مع ذلك يؤمنون بحقيقة الموت بيقين، وبالمقابل فإنّ المؤمنين يؤمنون بهذا اليوم بيقين، وهنا يغلب حال المؤمنِ بيقين الموت حالَ المنكر للآخرة بالظنّ والأوهام فيعيش هذا المنكر بخوف وقلق واضطراب، ولذا فإنّنا نرى كثرةَ الانتحار في صفوف من يهرب من الواقع الذي يدفعه للتفكر بذاك اليوم العظيم الذي هو يوم الحساب والجزاء.

وحصل هذا كله بل أكثر؛ حين أُغْلِقَتْ عقولهم عن التفكر بالآخرة، وسكِرت نفوسهم بالمادِّيَّات الدنيويَّة، ولم يوفِّروا لها أيَّ شهوةٍ ولذةٍ إلا ونالوها في الدنيا، فأطلقوها ترتع في كل وادٍ، وصارت الروح حبيسة للنفس البهيمية، فوصلتْ النفسُ إلى حدِّ الإشباع من الغرائز والملذّات، وأما الروح فهي فقيرة من الإيمان وذكر الله، ولذة التفكر بنعم الله وآلائه، ليس لها أدنى معرفة عن الآخرة ونعيمها، أو جزاءِ هذه الدنيا الفانية، فيتوقف العقل ويصطدم القلب بتساؤلات كثيرة لا يسع هذا الإنسان معرفتها إلا في صحبة أهل الإيمان والإسلام، لكنه بتكبرهِ وعنادِه، أو جهله وتجاهله، يأبى هذه المصاحبة فيُسْلِمُ نفسه إلى الانتحار والهروب من الحقيقة.

ولذا ذكر الله تعالى لنا بعض أحداث يوم القيامة، وأحوال الظالمين والمكذِّبين به والمنكرين له؛ لنتّعظ ونتذكّر، فلا ننسى مهمّتنا في الدنيا ونحذر من العاقبة، وتأمّل أخي القارئ قول أهل الإيمان والصلاح:
فقد قال مغيث الأسود:

زُورُوا الْقُبُورَ كُلَّ يَوْمٍ تُذَكِّرْكُمُ الْمَوْتَ، وَتَوَهَّمُوا جَوَامِعَ الْخَيْرِ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْجَنَّةِ بِعُقُولِكُمْ، وَشَاهِدُوا الْمَوْقِفَ كُلَّ يَوْمٍ بِقُلُوبِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى الْمُنصَرَفِ بِالْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ بِهِمَمِكُمْ، وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ ذِكْرَ النَّارِ وَمَقَامِعِهَا وَأَطْبَاقِهَا»، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرفَع صريعًا من بين أصحابه، قد ذهب عقلُه.(العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني: ١/٢٥٠، وتفسير ابن كثير: ٢/١٨٥)

وما حصل لهم هذا إلا لَمَّـا قرؤوا التذكير المتكرر المدْرج في كتاب الله تعالى برسائل واضحة لذوي العقول، حين يخاطب الله فيه قلوب أولي الأبصار، الذين يؤمنون فيقولون: "ربَّنا آمنَّا بما أنزَلْتَ"، بل إن الصالحين جعلوا الوقوف على حقيقة من حقائق الإيمان أفضل من ألوف الكرامات، ومن أعظمِ حقائق الإيمان هو الموت، واليوم الآخر والحساب، والحشر، والنشْر، والصراط، والميزان، وأهوال الموقف وأنواع الحساب.. وهكذا.. فإن التفكّر في الآخرة يدفع الإنسان العاقل للعمل والعبادة والرغبة للآخرة بالزيادة، والتقليل من زاد الدنيا وهذا حالٌ إيمانيٌ نبويٌّ، سار عليه أهل الإيمان والصلاح امتثالاً وإيماناً، كيف لا وقد قال لهم حبيبهم صلى الله عليه وسلم القولة المشهورة التي تجسّد هذا المعنى بكامل صوره، فتعال معي لنتأمّل هذا القول النبوي العظيم:

أكثِروا ذِكْرَ هاذِمِ اللَّذّاتِ يعني الموتَ فإنَّه ما كان في كثيرٍ إلّا قلَّله ولا قليلٍ إلّا جزَّأه.(أخرجه الطبراني في «الأوسط»: (٦/٥٦)، والبيهقي في «الشعب»)

هكذا يفعل التفكر بالمعاد والموت بصاحبه، إنَّهُ ما ذَكرَهُ أحدٌ في ضيقٍ منَ العيشِ إلّا وسَّعَهُ عليْهِ ولا في سعةٍ إلّا ضيَّقَهُ عليْهِ.

لذلك كان التفكّر في الآخرة يقرّب البعيد، ويسهّل الصعب، يجعلك تنظر إلى من جمع الدنيا وساد فيها لسنين؛ فتنظر أين هو الآن وما هو مصيره! أين الجمال والمال، وأين الجاه والسلطان، أين القوة والطغيان! أين كل شيء سادوا به..!!

نماذج من أحوال السلف المتفكّرين بالآخرة:

ما أحسن وأجمل كلام ابن الوردي في لاميَّته حين يقول:

وافتكرْ في منتهى حُسنِ الذي * * * أنـتَ تـهواهُ تجدْ أمـراً جَلَلْ

واتَّـقِ اللهَ فتـقوى الله مـا * * * جاورتْ قلبَ امْريءٍ إلا وَصَلْ

كُتبَ الموت على الخَلقِ فكمْ * * * فَـلَّ من جيشٍ وأفنى من دُوَلْ

أيـنَ نُمـرودُ وكنعانُ ومنْ * * * مَلَكَ الأرضَ وولَّـى وعَـزَلْ

أيـن عادٌ أين فرعونُ ومن * * * رفـعَ الأهرامَ مـن يَسْمَعْ يَخَلْ

أينَ من سادوا وشادوا وبَنَوا * * * هَـلَكَ الكلُّ ولـم تُـغنِ القُلَلْ

أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى * * * أيـنَ أهـلُ العلمِ والقومُ الأُوَلْ

سيُـعيـدُ الله كـلاً منـهمُ * * * وسيَـجزي فـاعلاً ما قد فَعَلْ

نعم سيعيد الله الجميع ويجازي الصالحين بفضله، والعاصين المنكرين بعدله، ويعفو عمَّن يشاء إن شاء لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون.

هكذا دفعهم هذا التفكّر لهذا اليقين، فباشرت حلاوة الإيمان قلوبهم، واستنارت عقولهم، فكان يقول قائلهم: لو قيل لي إن أجلك بعد ساعةٍ ما زدتُّ من عملي، ويقول الآخر:

عَجِبْتُ لِمَنْ أيْقنَ بِالموتِ ثُمَّ هو يَفرحُ، وعَجِبتُ لِمَنْ أيقنَ بالنارِ ثُمَّ هو يَضحكُ، وعجِبْتُ لِمَنْ أيْقنَ بِالقَدَرِ ثُمَّ هو يَنْصَبُ، عجِبتُ لِمَنْ رَأى الدُّنيا وتَقلُّبَها بِأهلِها ثُمَّ اطْمأَنَّ إليها، وعجِبتُ لِمَنْ أيْقنَ بِالحسابِ غدًا ثُمَّ لا يَعملُ.(صحيح ابن حبان: ٢/٧٦)

بهذه الأحوال من التفكّر بالآخرة ظهرت لأولئك الصالحين المعاني الصادقة بالإيمان الحقيقي الذي ينبغي أن يعيشه كلّ مؤمن بلْ كلّ إنسان..!

وقد كان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثَّل بقول القائل:

إذا المرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عبرة(صحيح ابن حبان: ٢/٧٦)

وقد ورد عَنْ سيدنا أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال:تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.(حلية الأولياء: ١/٢٠٨) وسواء كان هذا التفكر في نعم الله، أو آياته وكونه، أو كان في الآخرة وأحوالها وأهوالها.

وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، أو لي فيه عبرة.(رواه ابن أبي الدنيا في كتاب: التفكر والاعتبار)

التفكر بالآخرة يشمل الجنة والنار:

حين دعانا للتفكّر في الآخرة لم يحصر هذا التفكر في جانب الحساب والعقاب بل إن المؤمن مدْعوٌّ للتفكر بما أعده الله لعباده الصالحين من النعيم المقيم، فكما جاء الوعيد على الظالمين والمخالفين، كان وعْد الله للمؤمنين الصالحين، فجمع الله بين وعده ووعيده في كثير من آيات القرآن، وشوّق عباده الصالحين بأنواعٍ من النعيم وقصور في الجنان، وحور وولدان، ومن كل فاكهة زوجان، ولمن خاف مقام ربّه جنَّتان، على سرُر متقابلين، لا يمسُّهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين، لا يذوقون فيها المرض ولا الموت، صدورهم سليمة، ووجوههم ناعمة لسعيها راضية، أدنى نعيم أهل الجنة في الجنة:

هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ.(رواه مسلم: ١٨٩)

أرأيت أيها الأخ القارئ الحبيب أنّ الدعوة ليست للتفكر في مستوىً يدفعك لليأس فيزجّك في القلق والخوف، لا أبداً، بل إنّ الله عزَّ وجلَّ دعانا لهذا وذاك كي يحصل التوازن عندنا، ففي الغفلة والنسيان نغلّب التفكر بالآخرة من جانب الخوف من الحساب مرةً، ونغلِّب الرجاء في سائر أحوالنا مع حسن الظنِّ بوعْد الله مرةً أخرى.

وتأمّل معي وتفكّر روعة وجمال التشويق النبويِّ إلى الجنة والتفكّر فيها في قوله صلى الله عليه وسلم عندما وصف الجنة فقال: فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.(رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها)

من ثمرات التفكّر في الآخرة:

• العبرة والعظة وتذكّر المهمة في الحياة وهي الطاعة والعبادة، يروى عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نقش خاتمه:كفى بالموت واعظاً يا عمر.(الاستيعاب في معرفة الأصحاب: باب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)

• الابتعاد عن المعاصي، لأن الإنسان عندما ينسى الآخرة وينسى الحساب والجزاء فلا يبالي بوقوعه في المعاصي فيقلّ الخوفُ من الله في قلبه، فإن دام ذكره للآخرة بصدْقٍ صحّ تفكّره وانزجرتْ نفسه عن المخالفة.

• الإكثار من الطاعات والاستعداد ليوم الحساب وساعة الموت المجهولة.

• الفرج والغنى والقناعة من الدنيا بما قسّم الله تعالى، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:

مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ.(رواه الترمذي في سننه: ٢٣٦٥)

أخيراً إن أردت النصيحة في خلاصة ما تقدّم فإليك قول أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: الْفِكْرُ فِي الدُّنْيَا حِجَابٌ عَنِ الْآخِرَةِ وَعُقُوبَةٌ لِأَهْلِ الْوَلَايَةِ، وَالْفِكْرَةُ فِي الْآخِرَةِ تُورِثُ الْحِكْمَةَ وَتُحْيِي الْقَلْبَ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً صَحَّ عِنْدَهُ غُرُورُهَا وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مُقْبِلَةً بِزِينَتِهَا شَابَ فِي قَلْبِهِ حُبُّهَا، وَمَنْ تَمَّتْ مَعْرِفَتُهُ اجْتَمَعَ هَمُّهُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ شُغْلَهُ.(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: ٩/٢٧٨)

اللهمّ حقّقنا بتمام المعرفة وكمال المحبة حتى نكون عليك مقبلين، ولك راضين، وعندك مرضيّين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

تعليقات



رمز الحماية