الإسراء والمعراج (معجزة وتربية ودعوة) | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم السبت،21-مارس-2020

الإسراء والمعراج  (معجزة وتربية ودعوة)

تعتبر رحلة الإسراء والمعراج لنبينا صلى الله عليه وسلم معجزة إلهية، ومنحة ربانية علوية، وقد تمت بعد محنة دنيوية أرضية، وهكذا تكون المنح بعد المحن، والعطايا بعد المصائب والرزايا.

المنحة والعطاء بعد التضرع والدعاء:

جرَت سنة الله تعالى في خلقه الابتلاء، ليُظِهر فيهم أحوال أهل الصبر فيكرمهم بالعطاء، وبين والصبر والعطاء ينبغي أن يتقلّب العبد بأحوال العبْديَّة والدعاء، يعيش رخاءه بين شكر وخوف ورجاء، ويقضي شدّته بتضرع والْتِجاء، وهذا ما كان عليه سيّد الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

وقد سبقت أحداث الإسراء والمعراج أحوال واضطرابات، عاشها حبيبنا صلى الله عليه وسلم عِيشة العبد الصابر، لم يجزع ولم يسخط، فبعدما فعل أهل الطائف ما فعلوه من الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإغراء السفهاء والصبيان بإيذائه، تجلت معاني العبودية عند أعظم نبي بين الأنبياء، وأكرم العبيد على الله وعند الله ، فاستسلم حبيب الله لربه وتوجّه إليه وهو يقول بقلبه ولسانه؛ يعلّم أمته أن يلجؤوا إلى الله بالدعاء عند الشدائد حيث كان يقول:

اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، ولكن عافيتَك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلَّ عليَّ سخطك، ولا حول ولا وقوة إلا بك. (أخرجه الطبراني عن عبد الله بن جعفر)

وهذا من أعظم الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج ، إنه الدعاء والالتجاء إلى الله بطلب الرضى والاستسلام له تعالى على مرّ القضاء.

وبعد هذا التضرع والانكسار، جاءت منحة العزيز الجبار، بمعجزة الإسراء والمعراج، وأن الملأ الأعلى وملائكة السماوات تريد أن تلتقي بسيد الأنبياء وتم ذلك التكريم الإلهي.

ثم جاءت ضيافة الإسراء والمعراج من بعد ذلك تكريما من الله تعالى له، وتجديدا لعزيمته وثباته، ودليلا على أن هذا الذي يلاقيه عليه الصلاة والسلام من قومه ليس بسبب أن الله قد تخلّى عنه، أو أنه قد غضب عليه، حاشاه، وإنما هي سنّة الله مع محبيه ومحبوبيه. وهي سنّة الدعوة والرسالة الإلهية في كل عصر وزمن.

دعاء ليلة الاسراء والمعراج:

يُعتبر الدعاء السابق من الدعاء الهام لمن من وقع في شدة؛ فإنه إذا دعا بهذا الدعاء مع الإخلاص فإن الله يفرِّج في الحال أو المآل، كما فرَّج عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد دعاء خاص في ليلة الإسراء والمعراج ، إلا لمن أراد أن يدعو بهذا الدعاء، أو أراد أن يدعو بما شاء فلا بأس على ألا يعتقد سنّية هذا الدعاء وتخصيصه بهذا الوقت.

خلاصة رحلة الاسراء والمعراج :

هي رحلة أرضية تبعتها رحلة سماوية، جاءت بعد صبر وعناء في الدعوة ، ثم حزنٌ على مستقبلها بعد وفاة أعزّ نصيرين للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وهما أبو طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته إلى الطائف، لكنه قُوبل بأشد مما وجده من المشركين، فدخل مكة بجوار المطعم بن عديّ ثم حين كان بفناء الكعبة أُتي بالبراق، وهو دابّة فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه.. وفيها أنه صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد الأقصى فصلى فيه ركعتين، ثم أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاختار عليه الصلاة والسلام اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة.. وفيها أنه عرج به صلّى الله عليه وسلم إلى السماء الأولى فالثانية فالثالثة... حتى السابعة، وفي كل سماء يلتقي بنبي أو أكثر... وهكذا حتى ذُهِب به إلى سدرة المنتهى، وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى.. وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلمين، وهي في أصلها خمسون صلاة في اليوم والليلة، وفيها رأى آيات كبرى، وأطلعه الله على الجنة والنار، وأراه أحوال أهل النعيم وأطلعه على أحوال أهل الجحيم، وكان يسأل جبريل عليه السلام في كل موقف عمّا يراه، فيجيبه جبريل عليه السلام، وتفصيل هذا في الصحيحين وكتب السنن، ثم عاد من ليلته إلى مكة، ولما كانت صبيحة اليوم التالي وحدّث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بما شاهد، طفِق المشركون يجمع بعضهم بعضا ليتناقلوا هذا الخبر الطريف ويضحَكوا منه. وتحدّاه بعضهم أن يصف لهم بقايا بيت المقدس ما دام أنه قد ذهب إليه وصلى فيه، والرسول حينما زاره لم يخطر في باله أن يجيل النظر في أطرافه، أو يحفظ أشكاله وعدد سواريه، فجلّى الله له صورة بيت المقدِس بين عينيه وأخذ يصفه لهم وصفا تفصيليا كما يسألون؛ فقد روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه

الحكمة من الاسراء والمعراج وماذا نستفيد منها؟

الخلاصة هي رحلة تعظيم وتكريم وتشريف لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي رحلة تخفيف ومواساة من المعاناة التي لاقاها صلى الله عليه وسلم من قريش والطائف، وحزنِه على خديجة وعمِّه بوفاتهما، حيث فقد النصير في البيت وهي خديجة، وفقد النصير في البلد والقوم وهو عمه أبو طالب، ثم ضاقت عليه الأرض وآذاه سفهاء قريش والطائف ثم جاءته بشارة السماء بأن الله معك وناصرك فإن شئت أطبق الله عليه الجبلين، وإن شئت سيَّرَ الله لك جبال تهامة ومكة زمرّداً وإن شئت نبيّاً ملكاً وإن شئت نبيّاً عبْداً، وكل ذلك ورسول الله يقول لا. بلْ نبياً عبداً، وعسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحّد الله، كما أننا نستفيد من عظمة الله القادر الذي يمهل عباده ليتوبوا، ونلاحظ عظمة الرحمة عند النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على من آذاه والأمل بالإيمان وعدم الدعاء عليهم، ونستفيد أن الله يريد من عباده الثبات مع ما يلاقونه من الشدائد في سبيل الدعوة، وأن الدعوة تحتاج إلى صبر وتضحية وأن أكبر مثال للثبات هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإسراء والمعراج دعوة وتربية:

يستحسن في نهاية مقالتنا هذه أن نأخذ بعض الفوائد على هامش هذه الرحلة العظيمة، من ليلة الإسراء والمعراج، وقد جمعت هذه الرحلة فوائد عديدة، نقتصر على واحدة في جانب الدعوة والتربية من ذلك:

١) أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لَحْمَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ. (أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود رحمهما الله تعالى)

وهذا بيان لخطر الغيبة والنميمة، وشناعة إطلاق اللسان في أعراض الناس وأن من جزائه أنهم يعذِّبون أنفسهم بأنفسهم يوم القيامة بأظفار من نحاس تنبت لهم نسأل الله العافية، وهذا تربية وتعليم، وتوجيه ونصيحة، لمن وقع في ذلك أن يتوب إلى الله ويطلب العفو والسماح ممن وقع فيهم، ويكثر من الدعاء لهم ويذْكرهم بالخير رجاء أن يتوب الله عليه.

٢) ومن ذلك أيضا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرَئِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ " وَفِي رِوَايَة:" خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ويقرؤون كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ.(رَوَاهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ )

وقوله : خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ أَيْ : عُلَمَاؤُهُمْ وَوُعَّاظُهُمْ وَمَشَايِخُهُمْ، وهذا تنبيه للوعّاظ والمبلّغين والمتكلِّمين أن يلزموا حدود الله فيما يقولونه ويبلغون به الناس من النصائح والمواعظ، ليجنّبوا أنفسهم مقاريض النار ويبتعدوا عن حال خطباء الفتنة الذين ينسوْن أنفسهم من البر الذي يأمرون به غيرهم، بل إن هذا هو حال دعاة بني إسرائيل الذي عناهم الله بقوله تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ : سُوءَ صَنِيعِكُمْ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً ، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ (مفاد كلام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء أنه يُروى مرفوعا ويروى موقوفا على أبي الدرداء وحذيفة وغيرهما رضي الله عنهم )وَكَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح كتاب الآداب باب الأمر بالمعروف والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الصغير والبيهقي في "شعب الايمان" والخطيب البغدادي في "الكفاية" وغيرهم )

وهذا يدل على الوعيد الشديد، وأن من يأمر بالخير وينسى نفسه ويخالف قوله فعله؛ فإن عليه هذا الوعيد الشديد، وقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا درس هام وبليغ من دروس الإسراء والمعراج ينبغي علينا ألا نتجاهله.

٣) في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ

في هذا الحديث دلالة على أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون، وأن الله جعل لهم حياة برزخيه خاصة، حيث رآه بعد قليل في بيت المقدس وخطب أيضا هناك ، ثم رآه في السماء السادسة في المعراج ونصَحَ نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالتخفيف عن أمته في شأنّ الصلاة،كل ذلك دلالات صحيحة واضحة على أن الأنبياء ينفعون وهم في البرزخ كما نفع موسى عليه السلام أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتخفيف الصلاة والنصيحة، وأنه يمكن أن تتمثل أرواحهم في الأمكنة المختلفة.

هذه إطلالة سريعة على حكمة الاسراء والمعراج وموقعها في الدعوة والنبوة، مع بعض الفوائد، ولا يمكن حصر هذه الفوائد والعبر والعظات من هذه المعجزة الكبيرة التي جمع فيها العلماء الكتب والمؤلفات.

تعليقات



رمز الحماية