غزوة مؤتة، أسبابها، أحداثها، الدروس والعبر المستفادة منها | الشيخ عبد الباسط المحمد


نشرت: يوم الإثنين،06-فبراير-2023

غزوة مؤتة، أسبابها، أحداثها، الدروس والعبر المستفادة منها

لقد مرَّ المسلمون ومنذ بداية الدعوة إلى الإسلام بالعديد من الصعوبات والامتحانات، واضطرَّ المسلمون إلى خوض العديد من الحروب والغزوات للقضاء على المعوقات التي تمنع من وصول رسالة الإسلام إلى الناس، وكانت إحدى هذه الغزوات "غزوة مؤتة" التي قامت بين المسلمين والروم على أرض الشام، لذلك سنعرض سبب هذه الغزوة، وأهمّ أحداثها، والدروس والعبر المستفادة منها.

أسبابها:

بعد صلح الحديبية أراد النبي ﷺ أن يغتنم الفرصة والوقت من أجل أن يوسع الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لتشمل مناطق خارج الجزيرة العربية، فبدأ بإرسال الرسل، ليُبلِّغ الناس والقبائل والأمراء والملوك رسالة الإسلام، وكان من ضمن هؤلاء الرسل "الصحابي الجليل الحارث بن عُمير الأزدي رضي الله تعالى عنه"، حيث أرسله النبي ﷺ إلى "بُصْرَى الشام"، فعندما وصلها وبلّغ رسالة النبي ﷺ، أمر عامل بُصْرى من طرف الروم شُرحبيل بن عمرو الغساني بقتله، ومن المعروف أنّ المندوب عن قوم أو عن دولة لا يجوز قتله بحالٍ من الأحوال.

فقتل المندوب المرسل من قبل دولة مّا أو قوم يُعدُّ جريمةً كبرى، بمثابة الإعلان عن الحرب، فلمّا وصل الخبر إلى النبي ﷺ أمر بتجهيز جيشٍ من المسلمين لقتال الروم.

أحداثها:

تُعدُّ هذه الواقعة من أولى الغزوات التي وقعت أحداثها خارج حدود الجزيرة العربية، وبالمناسبة لم يشارك النبي ﷺ فيها، ومع ذلك فقد أجمع علماء السيرة والتاريخ على تسميتها "غزوة" وليست بسريّة، وذلك لعدة أسباب، من أهمّها:

ــ كثرة عدد المسلمين المشاركين في هذه الواقعة.

ــ والنتائج المهمة التي ترتّبت على هذه الغزوة، فقد غيّرت تاريخ المنطقة، فكانت "غزوة مؤتة" بوّابة لدخول الإسلام إلى الشام والعراق ثم إلى بقية العالم.

فهي في الحقيقة "سريّة" وليست بغزوة، لعدم مشاركة النبي ﷺ فيها.

ندب رسول الله ﷺ المسلمين للخروج إلى جهاد الروم في أرض الشام "البلقاء"، فاجتمع "ثلاثة آلاف مقاتل" قد جهّزوا أنفسهم للخروج إلى "مؤتة"، أَمَّرَ رسول الله ﷺ في غزوةِ مؤتة "زيد بن حارثة"، فقال رسول الله ﷺ:

«إنْ قُتل زيد فجعفر، وإنْ قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة

فإنْ أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلاً منهم فليجعلوه عليهم

وزيادة "فإنْ أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلاً منهم فليجعلوه عليهم" غير موجودة في البخاري.

قال ابن إسحاق: لما حضر خروجهم ودّع الناس أمراء رسول الله ﷺ وسلّموا عليهم فلما ودّع عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه مع من ودّع من أمراء رسول الله ﷺ بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة رضي الله تعالى عنه؟ فقال: أما والله! ما بي حبّ الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله تعالى يذكر فيها النار:

وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١

فلستُ أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟!

فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردّكم إلينا صالحين.

فقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه:

لكنّني أسـأل الرحمــن مغـفـرة*****وضــربة ذات فزع تقذف الزبــدا

أو طعنـة بيدي حــران مُجْهـزة*****بحـربة تنـفذ الأحشــاء والكبـدا

حتى يقولوا إذا مرّوا على جدثي*****أرشده الله من غـاز وقـد رشـــدا

سمع العدو بمسير المسلمين، فجهّز هِرَقْلُ مائتي ألف مقاتل، وجمع شُرَحْبِيْل بن عمرو مائة ألف مقاتل، فكانوا حوالي ثلاث مائة ألف مقاتل، مقابل ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين، وعندما سمع المسلمون بهذا العدد الهائل من العدو تشاوروا بأن يكتبوا كتابًا لرسول الله ﷺ يخبروه بذلك، ولكن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه شجّعهم وقال: والله! إنّ التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فانطلِقوا فإنّما هي إحدى الحُسنيَين، إما ظهور (نصر) وإمّا شهادة

والتقى الطرفان سنة 8 هـ، في الكرك "قرية مؤتة"، فأخذ اللواء سيدنا زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه حتى استشهد ثم أخذ اللواء سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فأبلى بلاءً عظيماً ضربه رجل من الروم فقدَّهُ نصفين وَوُجِدَ في جسده خمسين طعنةً ولا واحدةً منها في ظهره!! ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، فلم يزل يقاتل كصاحبيه حتى استشهد أيضاً

ثم اتفق الناس واصطلحوا على أن يكون سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أميراً للجيش فأخذ الراية فقاتل المشركين حتى انتصر المسلمون وعادوا إلى المدينة فائزين منتصرين.

أهمّ الدروس والعبر المستفادة من هذه الواقعة العظيمة:

ــ إنّ أعظم ما يثير الدهشة والاستغراب في هذه الواقعة، النسبة الكبيرة بين عدد المسلمين وعدوِّهم! فقد فاق العدو المسلمين العدد والعُدّة، حيث بلغ عدد الروم وحلفاؤهم من المشركين والعرب ضعف عدد المسلمين بخمسين مرة!! ومن ناحية العُدّة كان المسلمون في فقرٍ وحاجة وقلّة في السلاح، بينما العدو يمتلك جودة السلاح والحياة الفارهة، ولكن العجب يزول والدهشة تذهب إذا عرفنا ما يصنع الإيمان بالله تعالى، والاعتماد عليه، واليقين بوعده، بعد الأخذ بالأسباب، فعندما يكون إيمان المؤمنين إيمانًا حقيقيًّا فحدّث ولا حرج من الكرم الإلهي، كما قال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه: وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به

ــ ومن الدروس المستفادة من هذه الواقعة: يجوز لرئيس الدولة أو خليفة المسلمين أن يولّي المسلمين عدّة أمراء بالترتيب، كما فعل النبي ﷺ في تولية: زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهم.

ــ وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: تدلّ وصية النبي ﷺ على مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أمير جديد إذا غاب أميرهم، أو أعطاهم الخليفة إذن في اختيار ما يرونه مناسباً، ودلّت هذه الوصية على مشروعية اجتهاد الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حياه النبي ﷺ

ــ والدرس الآخر المستفاد من هذه الواقعة: عندما استشهد الأمراء الثلاثة كان النبي ﷺ يصف أرض المعركة ويخبر أصحابه بأحداثها وعيناه تذرفان، وفي هذا دليل على أنّ الله تعالى أكرم النبي ﷺ بهذه المعجزة، وفي ذلك شفقة من النبي ﷺ على الصحابة والمسلمين.

ــ ومن الدروس أيضاً فضل عامّة الصحابة، وفضل خاص لخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في هذه الواقعة، فبعد استشهاد القادة الثلاثة قال عليه الصلاة والسلام: حتى إذا أخذ الراية سيف من سيوف الله تعالى فتح الله عليهم(المرجع السابق)..

حيث قال سيدنا خالد رضي الله تعالى عنه عن نفسه:

لقد اندقّ في يدي يوم "مؤتة" تسعة أسياف ما بقيتْ في يدي إلا صفيحة لي يمانيّة

وفي "سبل الهدى والرشاد": ثم مع هذا كله لا يُقتل من المسلمين سوى اثني عشر رجلاً، وقتل من المشركين خلق كثير

وعند عودة المسلمين من مؤتة قال لهم بعض الناس في المدينة: يا فُرَّار! أفررتم في سبيل الله تعالى، وذلك بعد أن هَزم المسلمون العدوّ تركوا الأرض التي قاتلوا فيها كما هي ولم تكن هذه عادتهم في الغزوات، وهذه حكمة عظيمة من سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه حفاظاً على سلامة المسلمين وعلى هيبتهم في قلوب العدوّ وحلفائه، لذلك ردّ النبي ﷺ على هؤلاء الناس بقوله: ليسوا بالفرّارين ولكنّهم الكرّارون

ولا يسعنا في النهاية إلاّ أن نذكر: بأنّه لن يصلح شأن هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها، فعلينا، أن نصطلح مع الله، ونقوّي إيماننا حتى ينصرنا الله تعالى على أعدائنا وما ذلك على الله بعزيز.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية