مِنحة الأبرار بخبر شوق النبي المختار ﷺ | طارق المحمد


نشرت: يوم الأَحد،09-أبريل-2023

مِنحة الأبرار بخبر شوق النبي المختار ﷺ

خرج سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ليلة يحرس فرأى مصباحًا في بيت، فدنا منه فإذا عجوز تطرق شعرًا لها لتغزله أي: تنفشه بقدح لها وهي تقول:

عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْأَبْرَارْ*****صَلَّى عَلَيْكَ الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارْ

قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بَكِيَّ الْأَسْحَارْ*****يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمَنَايَا أَطْوَارْ

هَلْ تَجْمَعُنِي وَحَبِيبِي الدَّارْ

تعني النبي ﷺ، فجلس سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يبكي، فما زال يبكي حتى قرع الباب عليها، فقالت: من هذا؟ قال: "عمر بن الخطاب" (رضي الله تعالى عنه)، قالت: ما لي ولعمر؟ وما يأتي بـ"عمر" هذه الساعة؟ قال: افتحي رحمكِ الله، ولا بأس عليك، ففتحت له: فدخل، فقال: ردّي عليّ الكلمات التي قلتِ آنفًا، فردّتْه عليه، فلما بلغت آخره، قال: أسألكِ أن تدخليني معكما، قالت: وعمر، فاغفر له يا غفار، فرضي عمر ورجع

تلك هي أشواق عجوزٍ في عهد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه تذكّرت الأيام الخوالي مع رسول الله ﷺ فاشتاقت لأن تكون معه فهاج لشوقها شوقُ أمير المؤمنين فبكى، وهو حال روحانيّ يعتري المحبّ الصادق، لكن من أعظم ما يفتخر فيه المؤمن أن يشتاق له محبوبُه الذي يحبّه، فكيف إذا كان الذي يشتاق هو أعظم محبوب ومخلوق برَاه الله سبحانه وتعالى، ولمن يشتاق! وكيف يشتاق عبر الزمان؟ يشتاق للمؤمنين المحبّين الذين آمنوا به وتابعوه واقتفوا آثاره وسننه وأحواله، ويعبّر عن شوقه بكل صراحة، ليعْبُر شوقه الزمان والمكان، فيستشعره كل من يسمعه أو يقرأه على مرّ العصور والزمان فيفيض منه المزيد من مشاعر الشوق والاشتياق لرسول الله ﷺ، فدعونا نستمع لرسول الله ﷺ وهو يشتاق لأمته وإخوانه نسأل الله أن يجعلنا منهم.. عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه

أن رسول الله ﷺ أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أَوَلَسْنَا إخوانك؟ يا رسول الله ﷺ! فقال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعدُ، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعدُ من أمتك؟ يا رسول الله ﷺ! فقال: أرأيت لو أنّ رجلاً له خيلٌ غرٌّ محجّلة بين ظهرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، يا رسول الله ﷺ! قال: "فإنهم يأتون غرًّا محجّلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض، "ألا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِيْ كما يذاد البعير الضالّ، أناديهم: ألا هَلُمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول سُحْقًا سُحْقًا"

في رواية:

وددت أني لقيتُ إخواني، قال: فقال أصحاب النبي ﷺ: أَوَ ليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يَرَوْنِي

هذه من أجمل التعابير النبوية التي يطرب لها المؤمن المحبّ ويستبشر بها، ومن الوفاء أن نقابل هذا الشوق النبوي على عظمته بشوقٍ إيمانيّ منا على ضعفه وقلته، ونتمنّى رؤية النبيّ ﷺ وصحبه.

لذا قال العلماء في هذا الحديث جواز التمنّي لا سيما في الخير ولقاء الفضلاء وأهل الصلاح، والمراد بقوله ﷺ: "وددت أنا قد رأينا إخواننا": أي: رأيناهم في الحياة الدنيا.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقيل: المراد تمنّي لقائهم بعد الموت.

قال الإمام الباجي رحمه الله تعالى: قوله ﷺ: ("بل أنتم أصحابي") ليس نفيًا لأخوّتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة رضي الله تعالى عنهم والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة

قد وصف حبيبنا ﷺ حبّ من يأتي من المؤمنين بعده وشهد بحبّهم الشديد له، وهذه بشارة أخرى لكل محبٍّ صادقٍ بمحبّته لحبيبه، وهذه شهادة عبرت الزمان والقرون، وقد صدقت وظهرت في عدد من المحبّين الذين لا يخلوا الزمان منهم؛ لأنه بشارة نبوية بشّر به أصدق البشر حين قال:

من أشدّ أمتي لي حبًّا، ناسٌ يكونون بعدي، يودّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله

وعبّر بعض المحبّين عما سبق من الأحاديث فاختصر القول وقال:

نحن إخوان النبي المصطفى*****ودّ لو كان رآنا وكفى

وهم الأصحاب كانوا قبلنا*****جاء هذا في حديث يقتفى

وانقضت أصحابه وانقطعوا*****وبقينا نحن إخوان الصفا

حبّنا من حبّه مكتسب*****ومع البعد به البعد انتفى

وهو يشتاق ونشتاق كما*****يشتكي نشكو تباريح الجفا

وإذا ودّ وددنا مثله*****وهو أمر جلّ عن أن يوصفا

وهو أيضا نسب متّصل*****وحدة الروح مقام الخُلَفا

وإذا الصحبة في الظاهر قد*****عظمت فضلاً وزادت شرفا

نسبة الإخوان في الباطن لا*****تقتضي إلا الجوى والشغفا

لكن على قصورنا وضعفنا تبقى هذه الصلة الروحية ونسبة الأخوة مع نبينا وحبيبنا ﷺ ولا تنقطع، بشرط ألاّ نغيّر ولا نبدّل، وكما أن حياةَ رسول الله ﷺ نعمة لأصحابه خاصةً؛ فكذا هو في برزخه وروضه نعمة لأمته من بعده بشكلٍ خاصٍ أيضًا، وقد أثبت حبيبنا ﷺ هذا المعنى حين قال: حياتي خير لكم تحدثون ونحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم قال الهيثمي رحمه الله تعالى: رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح، كما قال الحافظ نور الدين الهيثمي في

قال الحافظان العراقيان -الزين وابنه ولي الدين أبو زُرْعة رحمهما الله تعالى- في (طرح التثريب): إسناده جيد.

قال الحافظ السيوطي في (الخصائص الكبرى): سنده صحيح، والحديث وإن روي من طرق بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، لكن عمل الجمهور على تصحيحه أو تحسينه، وممن صحّحه أيضًا: النووي وابن التين والقرطبي والقاضي عياض وابن حجر رحمهم الله تعالى.

وقفة مع حديث الحوض والعرض:

ذكرنا هذا التخريج عن أهل العلم؛ لأنه قد حاول بعضهم تضعيفه من ناحية المتن؛ بأنه مخالف لحديث الحوض السابق، وقول الملائكة للنبي ﷺ: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)!

ثم قال بعضهم مستشكلاً: لو كانت الأعمال تعرض عليه؛ لعرف ما صنعوا بعده؟!

فالجواب على هذا الإشكال على أقوال كما قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:

أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدّون، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي ﷺ للسيما التي عليهم فيقال: ليس هؤلاء مما وعدت بهم، إن هؤلاء بدّلوا "بعدك" أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.

الثاني: أن المراد من كان في زمن النبي ﷺ ثم ارتدّ بعده فيناديهم النبي ﷺ وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه ﷺ في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدّوا بعدك.

الثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار بل يجوز أن يزادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب، قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبي ﷺ وبعده لكن عرفهم بالسيما، وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبد البر رحمه الله تعالى: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله أعلم

أجاب به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" جامعًا بين الحديثين، ناقلاً ذلك عن أربعة من أكابر الحفاظ، وهم: النووي، وابن التين، والقرطبي، والقاضي عياض، وابن حجر خامسهم رحمهم الله تعالى حيث قال كلامًا نفيسًا هناك مفصّلاً يحسُن الرجوع إليه، إلا أن الذي ينبغي أن نعرفه وننتبه بأن أهل السنة أجمعوا بأنه لم يرتدّ أحدٌ من المهاجرين والأنصار ولا من سائر الصحابة الكرام المعروفين والمشهورين رضي الله تعالى عنهم؛ لأن الله رضي عنهم بنص القرآن، ونصّ على ذلك علماء أهل السنة كالشيخ عبد القاهر البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه "الفرق بين الفرق وغيره"، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "الفتح".

قال الخطابي رحمه الله تعالى: لم يرتدّ من الصحابة أحد وإنما ارتدّ قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحًا في الصحابة المشهورين رضي الله تعالى عنهم، ويدل قوله "أُصَيْحابي" بالتصغير على قلة عددهم، وقال غيره: قيل: هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأمتي "أمة الدعوة" لا "أمة الإجابة"، ورجح بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه "فأقول بعدا لهم وسحقا"، ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه

بهذا يزول الإشكال ويتّضح المقال عن حديث عرض الأعمال، ويبقى المحبّ على شوق واتصال بحبيبه المتّصف بمعالي المزايا والخصال، والذي بشّر بطوبى مرارًا لم آمن به ولم يره.

بشارة لك مؤمن:

عن نافع رضي الله تعالى عنه قال:

جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه! أنتم نظرتم إلى رسول الله ﷺ بأعينكم؟ قال: نعم. قال: وكلمتموه بألسنتكم هذه؟ قال: نعم. قال: وبايعتموه، بأيمانكم هذه؟ قال: نعم. قال: طوبى لكم يا أبا عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه!. قال: أفلا أخبرك عن شيء سمعته منه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي- ثلاثا، وفي رواية: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبعًا لمن لم يرني وآمن بي

فما أعظم هذه البشارة لأهل الحبّ والشوق والإيمان، ولا أجمل من أن يعيش المحبّ هذا الاتصال الروحيّ مع الحبيب الأعظم ﷺ؛ فيطوي الزمان والأعوام والمكان مع طيّة لرعونات نفسه ونزغات الشيطان، ليعيش حال أهل الوله والهيمان بالمصطفى حبيب الرحمن ﷺ، نسأل الله أن يهيّأنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً لنيل هذا المقام بفضله وكرمه، فإنّ حالنا حال أهل الضعف والعصيان؛ فنسأله تعالى ألاّ يجعلنا من أهل البعد والخذلان بجاه حبيبه المجتبى العدنان ﷺ. آمين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية