كيف حج الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..؟ | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الأَحد،28-يوليو-2019

كيف حج الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..؟

حجة الوداع:

في السنة العاشرة من الهجرة أُذِّنَ في الناس أنْ النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الحج، حينها لم يبق أحد سمع بذلك ويقدر على الحج راكباً أو ماشياً إلا أتى المدينة، وكذلك في طريق سيره صلى الله عليه وسلم إلى مكة لحق به خلق كثير، كلهم يلتمس أن يحج مع النبي عليه الصلاة والسلام وأن يتأسى به ويعمل مثل عمله صلى الله عليه وسلم، ومما جرى حينها أن أصاب الناس جدري فمنع بعضهم من المشاركة في ذلك الحج العظيم الكريم، فقال صلى الله عليه وسلم:

عمرة في رمضان تقضي حجة معي. (سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٥٠)

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا دجانة سِماك بن خَرشَة الساعدي، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وخطب الناس وعلّمهم مناسك الحج، ثم اغتسل وترجّل وادّهن بالزيت، ثم قال:

اللهم اجعله حجاً مبروراً، لا رياء فيه ولا سمعة(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٥١)

إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وتلبيته:

وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في الخامس من ذي القعدة يوم السبت بعد الظهر، وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى ذا الحليفة، فنزل بها، وصلى بالناس العصر ركعتين، يقول سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول:

أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك (صحيح البخاري: ١٥٣٤)

ثم بات عليه السلام بذي الحليفة وصلى المغرب والعشاء، والصبح، والظهر..

ووبعدما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح شرع في الإحرام، فاغتسل غسلاً ثانياً وتطيّب ولبس إزاره ورداءه، وأهلّ بالحج ولبّى:

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنْ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. (متفق عليه)

وورد:

" لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا. (أخرجه البزار: ٦٨٠٣)

ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبّي..

الصِدّيق رفيق الحبيب صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع:

وكان طعامه ومتاعه صلى الله عليه وسلم مع طعام ومتاع أبي بكر الصديق رضي الله عنه على بعيرٍ واحدة، يقودها غلامُ أبي بكر رضي الله عنه، وعندما نزلوا بالعرج جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى جانبه وعائشة رضي الله عنها إلى جانبه الآخر، وكان أبو بكر ينتظر الغلام مع الراحلة للطعام، فلما قَدِمَ الغلام، قال له الصديق رضي الله عنه: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة، فأسف الصديق رضي الله عنه أشد الأسف وحزن لهذا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وصلوا آل فضالة الأسلمي علموا أن راحلة النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها الطعام قد ضلت، فحملوا له الطعام ووضعوه بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلمّ يا أبا بكر، فقد جاء الله تعالى بغذاء أطيب)، وجعل أبو بكرٍ يغتاظ على الغلام لفعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هوّن عليك يا أبا بكر، فإنّ الأمر ليس إليك، ولا إلينا معك، وقد كان الغلام حريصاً على ألا يضل بعيره...) فأكلوا جميعاً حتى شبعوا.(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٦٠)

ولما مروا بوادي عُسْفان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر أي وادٍ هذا ؟) قال: وادي عُسْفان، قال صلى الله عليه وسلم:

لقد مرّ به هود، وصالح، على بَكَرَين أحمرين خطمهما ليف، وأرزهم العباء، وأرديتهم النماز يلبون، يحجون البيت العتيق.(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٦١)

طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت العتيق:

وسار صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بوادي الأبطح بالقرب من مكة، فبات به ليلة الأحد الرابع من ذي الحجة، وصلى فيه الصبح، ثم اغتسل ونهض إلى مكة من أعلاها من الثنية العليا، وكان صلى الله عليه وسلم في العمرة يدخل من أسفلها، أما في الحج فدخل من أعلاها وخرج من أسفلها، ثم دخل المسجد ضحىً، واتجه إلى البيت ولم يركع تحية المسجد، فإنَّ تحية المسجد الحرام الطواف،

فبدأ بالحجر فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء ثم رمل ثلاثاً ومشى أربعاً، فلما فرغ قبّلَ الحجر ووضع يديه عليه، ومسح بهما وجهه.(السنن الكبرى للبيهقي: ٩٢٢١، سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٦٢)

سعي النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة:

وقد اضطبع بردائه أثناء طوافه أي جعل رداءه على أحد كتفيه وأبدى كتفه الآخر، وكان يستلم الحجر كلما مر بجانبه، فلما فرغ من طوافه صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين، ثم اتجه إلى الصفا فلما دنا منه قرأ:

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ

أبدأ بما بدأ الله به.(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٦٤)

واستقبل البيت فوحد الله وكبره، فسعى إلى المروة وفعل كما فعل في الصفا وهكذا سبعاً صلى الله عليه وسلم.

وبعد أداء العمرة، سار صلى الله عليه وسلم والناس معه فنزل شرقي مكة في قبة حمراء من أدم، وحينها قدِمَ علي رضي الله عنه من اليمن بِبُدنٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مجموع الهدي ما أتى به علي رضي الله عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مئة بدنة.

تبرك الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم:

وبقي في مقامه الذي نزل فيه (بظاهر مكة) إلى يوم التروية، أي أربعة أيام يقصر الصلاة (الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء)، ومما جرى من أحداث أنّ بلال رضي الله عنه خرج من قبة النبي صلى الله عليه وسلم بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم فسارع الناس للأخذ منه تبركاً به، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلةٌ حمراء، فصلى بالناس، ثم جعل الناس يأخذون بيده الشريفة فيمسحون بها وجوههم، يقول أبو جحيفة رضي الله عنه:

فأخذت يده صلى الله عليه وسلم فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك.(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٦٨)

خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوداع:

فلما كان يوم الخميس ضُحى توجه صلى الله عليه وسلم إلى منى فنزل بها وصلى فيها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء وبات فيها، فلما طلعت الشمس سار صلى الله عليه وسلم إلى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له هناك فنزل فيها، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة جليلة، التي عُرفت بخطبة الوداع، التي حملت معانٍ كريمة، وقيم عظيمة، منها:

- تحريم دماء وأموال المسلمين.

- هدم الجاهلية وأمورها وما يتعلق بها.

- الوصية بالتقوى والحرص على الدين.

- الوصية بالنساء والرفق بهنّ.

- الوصية بالتمسك والاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

- تأكيد وترسيخ أخوة الإسلام.

- الوصية بلزوم جماعة المسلمين.

وفي الخطبة كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي يصرخ وينادي في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبلغاً إياهم كلامه الشريف صلى الله عليه وسلم، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم اِصرخ، وكان صيتاً أي شديد الصوت.

وهناك كان نزول آية:

ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: ٣]

ومما حُفظَ من دعائه صلى الله عليه وسلم:

اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوَجِل الْمُشفق الْمُقِر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل جسده، ورَغِم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤولين ويا خير المعطين(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٧١، والدعاء للطبراني: ٨٧٧)

هذا دعاء وحال سيد الخلق وحبيب الحق، فما حالنا نحن اليوم ؟!

وهناك سقط رجلٌ من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يكفن في ثوبه، ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أنه يبعث يوم القيامة يلبي.

النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة ومنى:

فلما غربت الشمس أفاض من عرفة، وأردف خلفه أسامة بن زيد، وكانت إفاضته بالسكينة حتى أنه صلى الله عليه وسلم ضم زمام ناقته حتى أنّ رأسها ليصيب طرف رجله، ويقول:

أيها الناس عليكم السكينة، فإن البرّ ليس بالإيضاع,أي: ليس بالإسراع.. (سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٧٢)

وأثناء الطريق مال صلى الله عليه وسلم إلى الشعب فنزل وبال وتوضأ، فقال أسامة: الصلاة يا رسول الله، - أي صلاة المغرب - فقال: الصلاة أمامك. ثم سار حتى وصل مزدلفة، فتوضأ وضوء الصلاة، وأمر بالأذان ثم أقام الصلاة فصلى المغرب والعشاء ولم يصل بينهم شيئاً ثم نام حتى الصباح.

فصلى الفجر، وكان يوم النحر يوم العيد، ثم سار بمزدلفة وقد أردف الفضل بن عباس خلفه وهو يلبي في مسيره، وفي طريقه أمر الفضل أن يجمع له حصى الجمار، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم عرضت له امرأة من خثعم، فسألته عن الحج عن أبيها الذي لا يثبت على الراحلة، وسأله آخر عن أمه، فلما وصل بطن مُحَسِّر حيث حُسر الفيل فيه وأصابه ما أصابه أسرع النبي صلى الله عليه وسلم السير، فأتى جمرة العقبة فوقف أسفل الوادي وجعل البيت عن يساره ومنىً عن يمينه، واستقبل الجمرة على راحلته فرماها راكباً بعد طلوع الشمس وهو يكبر مع كل حصاة وكان يلبي حتى شرع في الرمي وبلال وأسامة معه، أحدهما آخذ بخطام ناقته، والآخر يظله بثوبٍ من الحر.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في منى:

وفي يوم النحر كان يقول صلى الله عليه وسلم:

خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه.(أخرجه مسلم: ١٢٩٧)

ثم انصرف إلى النحر بمنى، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيديه الشريفة، ثم أمسك وأمر علياً أن ينحر ما بقي من المائة، وأن يتصدق بجلودها ولحومها على المساكين، وأمر من كل بدنة ببضعةٍ فجعلت في قدر فطبخت فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من لحمها وشربا من مرقها.

تقاسُم الصحابة لشعر النبي صلى الله عليه وسلم بعد حلق رأسه تبرُّكاً بهِ:

وبعدما أكمل النبي صلى الله عليه وسلم نحره استدعى الحلاق فحلق رأسه، وصار الناس يطلبون شعره الشريف، وقُسمَ بين الناس، ونادى مناديه بمنى أنها أيام أكل وشرب وذكر الله. ثم أفاض إلى مكة قبل الظهر راكباً وأردف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خلفه فطاف بالبيت الحرام، ثم أتى زمزم فأخذ دلواً لنفسه ومجّ فيها ثم أُفرغت في زمزم.

رمي النبي صلى الله عليه وسلم الجمار وطوافه الوداع:

ولم يتعجل في يومين بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة وأفاض صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المحصب وقد ضرب له أبو رافع قباء هناك فصلى هنا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة فطاف للوداع، ثم سار راجعاً إلى المدينة، فلما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال:

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.(سبل الهدى والرشاد: ٨/٤٨٥)

والحمد لله رب العالمين.

الخاتمة:

أخي القارئ هذا سرد من السيرة النبوية لبعض ما جرى في حج النبي صلى الله عليه وسلم واستشعار لجزْءٍ من حال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، وتشويق إليه ولم نذكر فيها كل الأحداث، وهذه المقالة لا تعتبر مصدراً لمعرفة أحكام الحج وكيفيته، فإن المرجع في هذا هو مذاهب أهل السنة والجماعة وعلماء الفقه وكتبهم (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) بشرط التلقي عن الشيوخ من أهل العلم والفضل.

والحمد لله رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية