كيف نجعل العالَم أخضر | فهد محمد العطاري


نشرت: يوم الإثنين،22-سبتمبر-2025

كيف نجعل العالَم أخضر

هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18

في عالمٍ يعج بالنعم الإلهية، يقف الإنسان مبهورًا أمام عظمة الخالق الذي أسبغ على عباده نعمًا ظاهرة وباطنة.. كما جاء في القرآن الكريم

أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ [لقمان:20]

فمن الحيوانات إلى الأنهار، ومن المعادن إلى الأشجار والنباتات وغيرها من المخلوقات، عمّ الله عباده بنعم لا تُحصى، كما قال سبحانه:

وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ [إبراهيم:34]

ومن بين هذه النعم الجليلة، تبرز نعمة الغرس والزرع كمظهر من مظاهر الرحمة الإلهية، وكجزء أصيل من رسالة الإسلام في إعمار الأرض.

في هذا المقال، سنتعرف على مكانة "التشجير في الإسلام"، وكيف أن الشريعة جعلت ذلك عبادةً ومسؤوليةً، مع إبراز دوره في تحقيق النفع الدنيوي والثواب الأخروي.

ليس الإسلام مجرد عبادات فردية، بل هو منظومة حياة شاملة تهتم بكل جانب من جوانب الوجود، بما في ذلك البيئة والطبيعة، وقد أولى الإسلام الزرع والغرس عناية خاصة، حاثًا على رعاية الأشجار والنباتات كما جاء في القرآن الكريم

هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا [هود: 61]

فمعنى الآية أن الله سبحانه وتعالى امرنا بعمارة ما نحتاج إليه فيها كبناء مساكن وغرس أشجار.(تفسير الماوردي: 2/379) لذلك يعتبر التشجير عملًا صالحًا يجمع بين خدمة الإنسان، والحيوان، والبيئة. ولم يكتفِ الإسلام بالحث على التشجير، بل وضع ضوابط لحماية الأشجار من الانقراض.

ونهی عن قطع الأشجار إلا لمنفعة محققة للعباد أو الدواب، كما نهى عن الإضرار بها أو تلويث محيطها. قد دعا الإسلام إلى المحافظة الأشجار والنباتات وعدم الإضرار بها، إلا في حال وجود حاجة حقيقية ومنفعة معتبرة للناس أو الدواب. كما وجّهت السنة النبوية إلى احترام الأماكن التي يستظل بها الخلق، لما لها من مكانة في حياة الإنسان والدواب على السواء. ومن ذلك ما جاء في قول النبي ﷺ:

 "اتقوا اللّعانين"، قالوا: وما اللّعانان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم" [صحيح مسلم: 269]

حيث أشار الحديث إلى أن التعدي على هذه المواضع، كقضاء الحاجة في ظل الشجر أو أماكن مرور الناس وجلوسهم، يُسبب الأذى ويجلب دعاء الناس باللعن على من فعل ذلك. ويُفهم من هذه التوجيهات أن الإسلام يزرع في النفوس احترام المحيط الطبيعي، ويجعل من الحفاظ على نظافته وكرامته جزءًا من سلوك المسلم اليومي وأخلاقه العامة. هذه الضوابط تعكس الرؤية الإسلامية المتكاملة التي تجمع بين النفع العملي والقيم الأخلاقية. وفي سياق آخر، يبرز القرآن الكريم تنوع استخدامات الأشجار فمنها

ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلۡأَخۡضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنۡهُ تُوقِدُونَ [يس: 80]

هنا، يُظهر القرآن كيف تتحول الأشجار إلى مصدر للطاقة، مما يعكس فوائدها العملية كما يصفها ككائنات حية تسبح الله:

وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ [الرحمن: 6]

وهذه الآية تذكر الإنسان أن الأشجار ليست وجودها من عدم إنما هي مخلوقات تسبح الله عز وجل آناء الليل والنهار.

صدقة جارية وأمل لا ينقطع:

لم تكتفِ السنة النبوية بالإشادة بالتشجير، بل جعلته من الأعمال الصالحة التي يستمر ثوابها بعد الموت، فقال النبي ﷺ

"فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَيْرٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [صحيح مسلم: 1552]

تمتد فوائد الشجرة لتشمل الكائنات الحية كافة، مما يجعل التشجير عبادة ذات أبعاد بيئية وإنسانية كما حث النبي ﷺ على الحفاظ على الأشجار، وأوصى بعدم قطع الأشجار المثمرة أو إحراقها في مواقع عديدة، مما يعكس الوعي البيئي في الإسلام.

درع الأرض الطبيعي:

تقوم الأشجار بدورٍ حيوي في الحفاظ على التوازن البيئي، وسأسردها لكم فوائدها بشكل مبسط: من هذه الفوائد:

1. تنقية الهواء: تمتص الأشجار ثاني أكسيد الكربون وتطلق الأكسجين، مما يحسن جودة الهواء، وتشير الدراسات إلى أن 100 شجرة قادرة على امتصاص حوالي 4500 كجم من ثاني أكسيد الكربون خلال تواجدها.

2. مكافحة التلوث: تمتص الأوراق الغبار والملوثات مثل أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت.
3. تنظيم المناخ: تقلل الأشجار من درجات الحرارة عبر عملية إطلاق أو إخراج بخارٍ يحتوي على فضلات من خلال التغيُّرات الموجودة في أنسجتها، وتحد من ظاهرة "الاحتباس الحراري" في المدن.

4. حماية التربة: تثبت الجذور التربة، مما يمنع التصحر وانجراف التربة.

5. تقليل الضوضاء: تشكل الأشجار حواجز صوتية طبيعية تقلل من التلوث الضوضائي.

6. امتصاص المواد السامة: أشجار مثل الصنوبر والنيم تمتص مركبات كيميائية ضارة من الهواء.

7. حجز الغبار: تعمل الأشجار كمصدات طبيعية للأتربة والجسيمات العالقة.

8. توفير الطاقة: توفر الظلال التي تقلل من الحاجة إلى أجهزة التبريد.

الفوائد الاقتصادية والاجتماعية:

تمتد فوائد التشجير إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلها استثمارًا طويل الأمد، فمنها:

• إنتاج الغذاء والخشب: توفر الأشجار الثمار للغذاء والخشب للصناعات مثل البناء والأثاث.

• فرص العمل: تخلق أنشطة التشجير وظائف في الزراعة، والصيانة، والإرشاد البيئي.

• تعزيز السياحة البيئية: تجذب الحدائق والغابات الزوار، مما يدعم الاقتصاد المحلي.

• تحسين الصحة النفسية: تقلل الخضرة من التوتر والاكتئاب، وتعزز الشعور بالراحة والسعادة.

التشجير والصحة العامة:

أثبتت الدراسات العلمية أن الأشجار تفرز مواد كيميائية تقوم بالتخلص من البكتيريات وتقلل من انتشار الميكروبات في الهواء، كما أنها تساهم في تعزيز مناعة الإنسان من خلال زيادة نسبة الأيونات السالبة في الهواء، وهذا يجعلها تحسن التركيز والنشاط العقلي لدى الإنسان. وتعمل الأشجار على تقليل أمراض الجهاز التنفسي بامتصاص الملوثات مثل الأوزون والجسيمات الدقيقة، فهي درع طبيعي لصحتنا.

رؤية لمستقبل أخضر:

يُعد التشجير ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة، حيث يربط بين حماية البيئة، والنمو الاقتصادي، ورفاهية المجتمع لزيادة المساحات الخضراء ومكافحة التغير المناخي، والفقر، والجوع. يمكن دمج التشجير في التخطيط العمراني من خلال إنشاء حدائق عامة، وزراعة الأشجار على جوانب الطرق، وفي المدارس والمستشفيات، وكل ذلك يعزز من جودة الحياة ويقلل من آثار الاحتباس الحراري.

نماذج من النباتات ذات الفوائد المتعددة:

النيم: يُعرف بخصائصه الطاردة للحشرات واستخدامه في الطب التقليدي. الصنوبر: يفرز مواد تقتل بكتيريا السل والدفتيريا. الأراك: مصدر السواك، وله فوائد صحية للفم والأسنان. الصفصاف: يحتوي على مركبات تُستخدم في صناعة الأدوية المسكنة.

دور مؤسسة فيضان العالمية للإغاثة الإنسانية (FGRF):

تبرز مؤسسة فيضان العالمية للإغاثة الإنسانية (FGRF) كمثال رائد في تعزيز التشجير، فقد نجحت هذه المؤسسة في زراعة أكثر من مليوني شجرة في أوروبا، آسيا، وإفريقيا، تحت شعار "ازرع بذرة لتنمو شجرة"، تشمل أنشطتها توعية المجتمعات بـ"أهمية الأشجار، توزيع البذور والشتلات، وتنظيم حملات تشجير جماعية في المدارس، وفي الحدائق والمناطق العامة". كما دعت المؤسسة الأفراد والشركات للتطوع والدعم المادي لتوسيع هذه المبادرة، للمساهمة في مكافحة التغير المناخي، والقضاء على آفة التصحر والاحتباس الحراري.

كيف يمكننا المساهمة في التشجير؟

• التطوع: المشاركة في حملات الزراعة، والري، والعناية بالأشجار.

• التبرع: تقديم الدعم المادي لمبادرات مثل مؤسسة FGRF.

• التوعية: نشر ثقافة التشجير في المجتمعات والمدارس وغيرها. غرس الأشجار في الحدائق المنزلية والأماكن العامة. كما يمكن للشركات والمنظمات التعاون مع المؤسسة لتنفيذ مشاريع تشجيرية واسعة النطاق، لنتمكن من صنع عالمٍ أخضر لنا ولأجيالنا.

تساهم حملات التشجير في:

تحسين جودة الهواء بامتصاص الغازات الضارة.

• منع التصحر وحماية التربة من التعرية.

• تنظيم دورة الماء وتقليل مخاطر الفيضانات.

• تعزيز الصحة النفسية والجسدية للمجتمع.

• خلق بيئة خضراء خالية من التلوث.

اغرس شجرة، اغرس أملًا! أخي المسلم! إن غرس النباتات أو الشجيرات عبادة عظيمة تجمع بين إعمار الأرض وطاعة الرحمن. فكل بذرة تزرعها هي صدقة جارية تنفعك في الدنيا والآخرة، وكل شجرة تنمو هي خطوة نحو عالم أنقى وأجمل. فكن من المستعمرين بالخير، واجعل التشجير جزءًا من حياتك.

ابدأ اليوم، وازرع شجرة في حديقتك أو حديقة الحيّ، شارك في حملات التشجير، وادعُ غيرك للمشاركة، لنجعل الأرض تتنفس من جديد، ولنترك أثرًا أخضر يشهد لنا يوم القيامة، اغرس شجرة اليوم، لنحيا في ظلالها غدًا!

تعليقات



رمز الحماية