مدونات مختارة
الأكثر شهرة
الدخيل في التفسير (الجزء الثاني) | محمد أحمد رضا العطاري المدني
هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 17
إنّ حقل تفسير القرآن الكريم خصب واسع وشامل لكل ما تضمنه من عقيدة وإيمان وشرائع وأحكام وآداب وقيم تبني كيان الإنسان، وفن التفسير هو محض توفيق، وصاحبه ذو ذوق رفيع؛ إذ أنّه كلما خاض فيه ازداد معرفة وإحاطة به، وأخرج منه لطائفه، فلا يمكن لأحد أن يتناول جوانبه كافّة، ولذا المتتبّع لفن التفسير يجد بعدًا في منهجية المفسرين أو طابعًا مختلفًا ما بين الواحد والآخر، وقد ينقسم تفسير القرآن الكريم إلى قسمين: المحمود والمذموم.
التفسير المحمود: تفسير الصحابة والتابعين، وتفسير الذين اعتمدوا على أقوالهم بالأسانيد الصحيحة، وتفسير أهل الرأي الموفق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة.
التفسير المذموم: هو التفسير من غير تأهّل له بالعلوم التي لا بد منها للمفسّر بأن يفسّر القرآن حسب هواه ومقتضى مذهبه الفاسد، مع جهله بمعرفة اللغة العربية أو التشريعات الإلهية، أو يحمل كلام الله تعالى على معنى لا يليق به، كتفسير أهل الأهواء والبدع وهو التفسير المردود.
فيجب على المفسّر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز وأن يجعل هدفه الأعلى ومقصده الأسمى إظهار هدايات الله من كلامه، مع بذل غاية الوسع في البحث والاجتهاد والمبالغة في تحرّي الحقّ والصواب، وتجريد النفس من الهوى مع مراقبة الله غاية المراقبة في كل ما يقول.
قد دخل في التفسير بالمأثور من أقوال الصحابة والتابعين "الخلل والتزييف ما دخل العلوم كلها من أدعياء كذبة"؛ فلذا يجب الحذر في رواية تلك المرويات؛ لأن الصحيح منه قليل، والضعيف والموضوع فيه كثير، وقد أضيفت إلى هذه الضِعاف الأقوالُ البَاطلة الْمُخِلَّة بالعقيدة، وهذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية، ورواتها مجاهيل، قال الإمام الشافعي: لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنه في التفسير إلا شبيه بمائة حديث (الإتقان في علوم القرآن: 2/1232).
بيان أَوْهَى الأسانيد في التفسير:
لقد قام العلماء المحدّثون النقّاد بنقد الرواة والطرق التي رويت بها هذه التفاسير تفصيلاً وتنصيصًا، فقد تكلّموا في كثير من المرويات المنسوبة إلى ترجمان القرآن؛ لأن الطرق إليه مشتبهة، وقلّما تصحّ النسبة إليه، وهذا الأمر جعل نُقَّاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التى جاوزت الحد وقفة المرتاب، فتتبّعوا سلسلة الرواة فعدَّلوا العُدول، وجرَّحوا الضُعفاء، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفًا، وبهذا يظهر دور اعتناء علماء الحديث والأسانيد في علم التفسير وأهمية معرفة الطرق الضعيفة في التفسير المروي عن أصحابها مثل ابن عباس رضي الله تعالي عنهما وغيره من الرواة المعروفين، وقد تكلم الإمام السيوطي قدس الله سره عن الطرق الضعيفة في التفسير حيث قال: وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب، وكثيرا ما يُخرِّج منها الثعلبي والواحدي، ولكن قال ابن عدي في "الكامل": للكلبي أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح، وهو معروف بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع.
وبعده مقاتل بن سليمان إلا أن الكلبي يُفضّل عليه، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة، وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة، فإن الضحاك لم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة عن أبي روق عنه فضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة (قوله: [النسخة] سلسة السند أو الطريق، وليس المراد منه نسخة الكتاب.) كثيرًا ابن جرير وابن أبي حاتم، وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفًا؛ لأن جويبرًا شديد الضعف متروك.
كيفية التعامل مع هذه التفاسير الجامعة للصحيح والعليل:
لا يخطر ببالك أو يذهب وهمُك من الكلام السابق إلى أن أكثر التفاسير غير معتمدة، فتترك كلها وتضرب بها عرض الحائط، أو يوسوسك قلّة الفهم أنا لا نكترث للتفسير، ولا نلقي له بالاً، ولا نسلم له خيره، وليس قصدُنا في هذا الكلام أن نبطل كل كلامهم بل إذا وجدنا كلامًا صحيحًا قبلناه ولو كان في كتاب غير معروف بالصحة، وإن وجدنا في كتاب معروف كلامًا باطلاً تركناه.
وقد تحدّث الإمام أحمد رضا الهندي رحمه الله عن أحوال أكثر كتب التفسير وكيفية التعامل مع هذه التفاسير الجامعة للصحيح والعليل حيث قال: إن غالب الزُّبُر المتداولة لا تسلّم من الدخيل، وتجمع من الأقوال كل صحيح وعليل، فمجرد حكايتها لا يوجب التسليم، ولا يصدّ الناقد عن نقد السقيم، فما هي عندنا أسوأُ حالاً من أكثر كتب الأحاديث؛ إذ نعاملها مرّة بالتّرك، وأخرى بالاحتجاج لما نعلم أنها تَرِد كل مورد، فتحمل تارة عذبًا فراتًا، وتأتي مرة بملح أجاج، وبالجملة فالأمر يدور على سلامة الحديث سندًا ومتنًا فأينما وجدنا الرطب اجتنينا، وإن كان في منابت الحنظل، وحيثما رأينا الحنظل اجتنبنا، وإن نبت في مسيل العسل.
لقد علمت أن أكثر هذا الداء العُضال، إنما دخل التفاسير من باب الإعضال ("أعضل الأمر" إذا اشتد واستغلق، وفي الاصطلاح: صورة من صور السقط في الإسناد، وأما المراد هنا ترك الأسانيد مطلقًا.)، وفي أمثال تلك المحال إذا لم يعرف السند يؤول الأمر إلى نقد المقال، فما كان منها يناضل النصوص، ويرُدّ المنصوص، أو فيه إزراء بالرسل والأنبياء، أو غير ذلك مما لا يحتمل، علمنا أنه قول مغسول، وإن كان بريئًا من الآفات، نقيًا من العاهات، قبلناه على تفاوت عظيم بين قبول وقبول ((الأنوار الرضوية في القواعد التفسيرية للإمام أحمد رضا خان: صـ 197-198)). أي فرق عظيم بين قبول قول بلا سند لكونه برئيًا من الآفات، وبين قبول قول وارد بسند صحيح، فيجب التحرّي لمعرفة مدى صحة الروايات وتحذير الناس من الإسرائيليات والواهيات لما لها من آثار خطيرة فى التفسير، بل فى العقيدة ذاتها؛ لأنها تصور الإسلام على أنه دين خرافات وأوهام.
بيان ورود القصص الواهية في التفاسير وخطورتها في العقيدة:
وقد بيّن الإمام شناعة هذا الصنيع حيث قال: دع عنك هذا، ياليتهم اقتصروا على ذلك لكن بعضهم تعدوا ما هنالك، وسلكوا مسالك تجرّ إلى مهالك، فأدمجوا في تفسير القرآن ما تقف له الشعر، وتنكره القلوب، وتمُجُّه الآذان إذ قرّروا قصص الأنبياء الكرام والملائكة العظام عليهم الصلاة والسلام بما ينقض عصمتهم، وينقص أو يزيل عن قلوب الجهّال عظمتهم كما يظهر على ذلك مَن راجع قصة آدم وحواء (انظر: التوراة سفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ لتزداد يقينًا أنه من الإسرائيليات، وليس منه شيء عن المعصوم ﷺ.)، وداود وأوريا (قال الإمام النسفي: ما يحكى أنه بعث مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة وأحبّ أن يقتل ليتزوّجها، فلا يليق من المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء. (تفسير المدارك: صـ 1018))، وسليمان والجسد الملقى (قال الإمام النسفي: وأمّا ما يُروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فمن أباطيل اليهود. (تفسير المدارك: صـ 1022))، والإلقاء في الأمنية والغرانقة العلى (ما ذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ألْقَى الشَّیْطٰنُ فِیْۤ اُمْنِیَّتِهٖ﴾. [الحج: 52] ألقى الشيطان على لسان النبي ﷺ: ½تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى¼، وهذه القصة لا تثبت من جهة النقل والعقل. انظر للتفصيل (الإسرائيليات والموضوعات: صـ 314-319))، وهاروت وماروت وما ببابل جرى (قوله: [وهاروت وماروت] كل هذا من خرفات بني إسرائيل، وأكاذيبهم، قد حكم بوضع هذه القصة الإمام ابن الجوزي، وقال الإمام الآلوسي: نصّ الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما: فهو كافر بالله. [روح المعاني] والسبب في نزولهما هو تعليم الناس أبوابًا من السحر، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة، وقد احتاط الملكان، فما كانا يُعلِّمان أحدًا شيئا من السحر حتى يُحذِّراه، ويقولا له: إنما نحن فتنة أي بلاء واختبار، فلا تكفر بتعلمه والعمل به. (الإسرائيليات والموضوعات والفتاوى الرضوية: 26/397))، فبالله التعوذ، وإليه المشتكى.
فأصابهم في ذلك ما أصاب أهل السير والملاحم في نقل مشاجرات الصحابة، إذ جاء كثير منها مناقضًا للدين وموهنًا لليقين، وازداد دَخنًا على دخن، وهنات على هنات أن اطّلع على كلامهم بعض من ليس عنده أثارة من علم ولا متانة من حلم فضلّ وأضلّ، إما اغترارًا بكلماتهم جهلا منه بما فيه من الوبال البعيد والنكال الشديد، وإما ظلمًا وعلوًّا لاجترائه بذلك على إبانة ما في قلبه المريض من تنقيص الأنبياء وتفسيق الأولياء فمضى عليه الكبير، ونشأ عليه الصغير فاختلّ دينٌ كثيرٌ من الناقصين، وصاروا شرًّا من العوام العامّين، إذ لم يقدروا على مطالعتها فنجوا عن فِتنتها.
هذا وقد قام العلماء الراسخون ضد هذا الوباء القاتل بدور كبير وبذلوا النصح للثقلين فشدّدوا النكير على كلا الفريقين: أعني التفاسير الواهية والسير الداهية، فأعلنوا إنكارها، وبينوا عَوَارها كالقاضي في "الشفاء"، والقاري في "الشرح"، والخفاجي في "النسيم"، والقسطلاني في "المواهب"، والزرقاني في "الشرح"، والشيخ في "المدارج"، وغيرهم في غيرها رحمة الله عليهم أجمعين ((الأنوار الرضوية للإمام الهندي: صـ 190-194)).
خطورة دخول اﻷفكار الفلسفية في التفسير:
هناك حصلت المحاولة المنحرفة والطامّة الكبرى عند من أراد أن يفسّر القرآن الكريم بأسلوب الذي يحكّم الاصطلاحات العلمية والعقلية والمنطقية في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها، وعلى نتيجة هذه المحاولة أضيفت إلى التفسير الأفكار المنحرفة المقتبسة من التراث اليوناني المأخوذة بمقولاته الفلسفية والمنطقية التى تتعارض مع الدين والإسلام ولا تتفق معه بحال من الأحوال، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث الفلسفة الدقيقة بالتفسير حتى طغت عليه، فغلبت عليه العلوم العقلية الفلسفية والفلكية والجانب العقلى على الجانب النقلى، ومثل هذه العبارات والأفكار الفلسفية يفضي لا محالة إلى طريق مليء بالمنعرجات التي تؤدَّي إلى الهلكة، والناظر في مثل هذه الأقوال وإن كان بعضها غير قادح في عقيدة المسلمين فإن جلّها ينطوي على شبهات إذا خالطت العقلَ واليقين تفسده، فيصاب المشتغل بها بالحيرة والشك والاضطراب.
ولذلك نبّه الإمام أحمد رضا خان الهندي رحمه الله تعالى على هذا البلاء العظيم: كل من نظر في كتب التفسير وغيرها من الكتب الدينية حيث قال: اعلم أن هناك أقوامًا يعتريهم نزغة فلسفية لما أفنوا عمرهم فيها، وظنّوها شيئًا شهيًا، فيولعون بإبداء احتمالات بعيدة، ولو لم يكن فيها حلاوة ولا عليها طلاوة، حتى ذكر بعضهم في قوله تعالى: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾([القمر:1]) ما تعلقت به جهلة النصارى وآخرون ممن يتلجلجون في الإيمان، فيلهجون بكلمة الإسلام، وفي قلوبهم من بغض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإنكار معجزاته جبال عظام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا الذي أعيا السيوطي حتى تبرّأ عنها كلها، واقتصر على الإرشاد إلى تفسير ابن جرير، كما تضجّرا الذهبي عن خلاعة أكثر السير والتواريخ، فعافها عن آخرها، واطمأن إلى دلائل البيهقي قائلاً: (إنه النور كله).
قد دبّت هذه الفتنة الصَّمّاءُ والبلية العمياء إلى كثير من متأخري المتكلمين الذين اشتدت عنايتهم بالتفلسف الخبيث، ولم يحصلوا بصيرة في صناعة الحديث حتى أنهم يذكرون في بعض المسائل فضلا عن الدلائل ما ليس من السنّة في شئ، وأما ما بينهم من قيل وقال وكثرة السؤال، والشُّبه والجدال، فكن حذرًا ولا تسأل عن الخبر. أوّاه إلى الله الشّكوى.
فلقد بلغ الأمر إلى أن الناظر في تلك الكتب لا يكاد يعرف أن هذا مما جاء به أرسطو وأفلاطون أو ما جاء به محمد رسول الله ﷺ.
قد ثقل صنيعهم هذا على العلماء المحتمين للدين حتى أن الإمام العالم العامل بعلمه سيدي الشيخ المحقق لَمّا رأى ذلك منهم في مسألة المعراج لم يتمالك نفسه أن أغلظ القول فيهم إلى أن سمّاهم ضالّين مضلّين، ولم يكن بدعًا في ذلك بل سبقه في إقامة الطامة الكبرى عليهم أئمة تشار إليهم بالبنان، وتقوم بهم أركان الإيمان كما فصّله الملّا علي القاري في "شرح الفقه الأكبر".
ومن هذا القبيل ما ذكره بعضهم في مشاجرات الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذ نسب القول بتفسيق كثير منهم حتى بعض العشرة
المبشرين أيضًا إلى كثير من أهل السنة والجماعة، وهم والله! ما قالوا ولا أذِنوا، فالحق: إن الدين لا يقوم إلا
بالحديث، والحديث مضلّة إلاّ للفقيه
(لا يعرف معنى هذه إلا الفقهاء بخلاف من لا يعرف إلا مجرد الحديث فإنه يضل فيه كما وقع لبعض متقدمي الحديث بل
ومتأخريهم، وبهذا يعلم فضل الفقهاء المستنبطين على المحدثّين غير المستنبطين ومن ثم قال: رب مبلغ أوعى من سامع
ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. (الفتاوى الحديثية: صـ ٣٧٣))،
(هو من كلام ابن عيينة أو غيره ومعناه أن الحديث كالقرآن في أنه قد يكون عام اللفظ خاص المعنى وعكسه، ومنه ناسخ
ومنسوخ ومنه ما لم يصحبه عمل ومنه مشكل يقتضي ظاهره التشبيه كحديث: ((ينزل ربنا))..إلخ)
والفقه لا يحصل باتباع الشُبه، وتحكيم العقل السفيه، نجانا الله والمسلمين عن شرّ الجهل وشرّ العلم فان شرّ العلم
أدهى وأمرّ.
أخيرًا! إنما أطنبنا الكلام في هذا المقام حفظًا على السنن وكراهةً للفتن أن تُروَّج على المؤمنين أو ترعرع إلى الدّين، فيفسد اليقين، ألا فعضَّ عليه بالنواجذ فالنصيح غير مفتون، وإياك أن تخالفه، وإن أفتاك المفتون (("الأنوار الرضوية" للإمام الهندي: صـ 195-196) وجُلّ هذه المباحث مأخوذة من "الأنوار الرضوية" للإمام أحمد رضا الهندي المطبوعة مع الفوز الكبير.).
فنسأل الله الحيّ القيوم أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا وأن ينور قلوبنا وأفهامنا بنور معرفة القرآن وأن ينفع به من طالعه بقلب سليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تعليقات