مَن هو أقوى الرجال؟ | أبو رجب محمد آصف العطاري المدني


نشرت: يوم الخميس،18-ديسمبر-2025

مَن هو أقوى الرجال؟

هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 19

أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن سيّدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَب (صحيح البخاري :6114)

شرح الحديث:

  • بين الحديث الشريف نوعين مِن القوّة، كما يقول العلّامة الملّا علي القاري رحمه الله في معنى قوله عليه السلام "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَة:"

أي: القوي كامل القوة من يكثر الصرع، وهو إسقاط المصارع له؛ لأنه قوة صورية نفسية فنية.

"إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عند الغَضَب:

أي الكامل الذي يملك نفسه عند الغضب: فإنه قوة دينية معنوية إلهية باقية، فحول النبي ﷺ معنى هذا الاسم من القوة الظاهرة إلى الباطنة، ومن أمر الدنيا إلى الدين (مرقاة المفاتيح :( 8/826 ))

  • ويقول العلّامة ابن بطال رحمه الله تعالى: فدلّ هذا أنّ مجاهدة النفس أشدّ مِن مجاهدة العدو (شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/296))
  • ومِن هذا الحديث قال سيّدنا الحسن البصري رحمه الله تعالى حين سُئِلَ: أيُّ الجهادِ أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك (ايضا)

القويّ في الإسلام:

كان القويّ في عصر الجاهليّة مَن يستطيع إسقاط خصمه، وكان هذا ينطوي على إذلال الطرف الآخَر وإهانته، أمّا ديننا الإسلام فهو دين السلام والأمان، وقد قدّم النبيّ الكريم ﷺ تصوّرًا إسلاميًّا راقيًا للقوّة، حيث بيّن أنّ القويّ والشجاع هو مَن يملك نفسه، لا مَن يغلب غيره.

كظم الغيظ ضروري

معنى الغضب: ثَوْرَانُ دَمِ القَلْبِ إِرَادَةَ الإِنْتِقَامِ (المفردات في غريب القرآن: صـ (361))

يشهد التاريخ أنّ الإنسان إذا أرادَ الانتقام مِن أحد، فإنّه يبذل كلّ جهدٍ خبيثٍ لإلحاق الأذى بعدوّه في نفسه وماله وعِرضه، وينسى في لحظة غضبه التمييزَ بين الحلال والحرام، ويسعى لإرواء غيظه بأيّ وسيلة، فيعرض نفسه لجهنم وعذاب النار، قال رسول الله ﷺ: لِلنَّارِ بَابٌ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِسَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَل (شعب الإيمان :8331)

ومِن أضرار الغضب أنّه يُفسد الإيمان، حيث قال سيّدنا رسول الله ﷺ: إِنَّ الْغَضَبَ لَيُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ، العَسَل (شعب الإيمان: 8294)

لا شكّ أنّ الإنسان قد يغضب، لكنّ الغضب الذي يجرّه إلى المعاصي يجب عليه أنْ يكظمه، قال الحبيب المصطفى ﷺ: مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ، يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. (مسند أحمد بن حنبل: 6122)

  • وقال العلّامة شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي رحمه الله تعالى: كظم الغيظ تجرعه واحتمال سببه والصبر عليه. (شرح الطيبي: 9/282)

السيطرة على الغضب؟

إليكم بعض النصائح المفيدة للسيطرة على النفس وكظم الغيظ

تذكّروا وصيّة النبي الكريم ﷺ:

إذا تحرَّضت النفسُ على إظهار الغضب فعلينا أنّ نستمدّ وصيّة هادينا ورسولنا الكريم ﷺ لنقهر تلك النفس ونغلبها، فعن سيّدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَوْصِنِي، قَالَ: "لاَ تَغْضَب". فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ (صحيح البخاري:6116)

  • قال العلّامة الخَطّابي رحمه الله تعالى في معنى قوله "لَا تَغْضَبْ": اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الْغَضَبِ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ (فتح الباري لابن الحجر: 11/439 (6116) )

 

اذكروا الله تعالى:

إنّ ذكرَ الخالقِ والمالكِ عزّ وجلّ وسيلةٌ عظيمةٌ للوقاية مِن كلّ شرّ، وقد ورد في الحديث القدسي: أن الله عزّ وَجل قال: مَنْ ذَكرنِي حِين يَغْضَبُ ذكرتُه حِين أغضب، وَلَا أَمْحَقُهُ فِيْمَنْ أَمْحَق (الفردوس بمأثور اخطاب:4476)

الاستعاذة بالله تعالى:

عندما نواجه أحد أعدائنا، فإنّ دعم ومساندة الآخرين يُعزّز من عزيمتنا، فكيف إذا كان العدوّ هو النفس؟! ولمواجهة هذا العدوّ الخطير علينا أنْ نستعيذ بالله عزّ وجلّ: فعن سيّدنا مُعَاذٍ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا حَتَّى أَنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ أَنْفَهُ لَيَتَمَزَّعُ مِنَ الْغَضَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ يَقُولُهَا هَذَا الْغَضْبَانُ لَذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. ٍ (مسند أحمد بن حنبل: 22147)

تخيّلوا وتأملّوا عذاب جهنّم:

قبل أنْ تعصوا اللهَ ورسولَه بالغضب، لا تنسوا أنّ عاقبة الذنوب هي نارُ جهنّم.

قال سيّدنا الحسن البصري رحمه الله تعالى:

يا ابن آدم! كلّما غضبتَ وثبتَ، ويوشك أنْ تثب وثبةً فتقع في النار (3/205:إحياء علوم الدين)

وقال بكر بن عبد الله رحمه الله تعالى: أَطْفِئُوا نَارَ الغَضَبِ بِذِكْرِ نَارِ جَهَنَّم. (9/297:شرح ابن بطال)

تذكّروا فضائل كظم الغيظ وثمراته:

دخول الجنّة: قال رسول الله ﷺ: لَا تَغْضَبْ وَلَكَ الجَنَّةُ. (2353:المعجم الأوسط)

ملأ القلب بالإيمان: جاء في الحديث: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا (8997:الجامع الصغير)

كفّ الله عنه عذابَه: عن سيّدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم قال: مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ (8311:شعب الإيمان )

التكريم أمام سائر الخلق: قال رسول الله ﷺ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الحُورِ العِينِ مَا شَاء (4777:سنن أبي داود )

الصمت عند الغضب:

عندما ينطلق اللّسان في حالة الغضب، فإنّه يجرح كحدّ السيف، لذا يجب كبحه بالصمت، قال رسول الله ﷺ: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُت (مسند أحمد بن حنبل: 2136)

تغيير الحالة:

إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ (سنن أبي دواد: 4782)

الوضوء عند الغضب:

قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ (سنن أبي دواد: 4784)

الدعاء عند الغضب:

الدعاء سلاحُ المؤمن، فليستخدمه في مجاهدة نفسه: وهنا أذكر لكم دعائين من الأدعية النبويّة:

اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين (1306:سنن النسائي)

قال رسول الله ﷺ للسيّدة أمّ سلمة رضي الله عنها قُولِي: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الفِتَنِ مَا أَحْيَيْتَنَا (مسند أحمد بن حنبل: 26638)

قراءة سير السلف الصالح:

اتّباع منهج السلف والصالحين مِن أسباب السعادة، ومِن أبرز فوائد قراءة سيرهم أنّنا نقف على مواقف مذهلة مِن حلمهم، وكظمهم للغيظ ما يُذهل العقول، ومِن ذلك قصّة سيّدنا الإمام علي بن الحسين رضي الله عنهما:

كانت له جارية تقوم بخدمته، ذات يوم جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع سيدنا علي بن الحسين رحمه الله رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول:

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمرن:134]

فقال لها: "قدكظمت غيظي".

قالت

وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [أيضًا]

فقال لها: " قد عفا الله عنك".

قالت:

وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [أيضًا]

قال: "اذهبي فأنت حرةٌ (7964:شعب الإيمان )

نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يرزقنا قوّةً روحيّةً على كظم الغيظ، آمين بجاه خاتم النبيّين ﷺ.

تعليقات



رمز الحماية