عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ساوم، قلت: عشرون ديناراً فأعطوني عشرين ديناراً فرجعت إلى الشيخ فقال: يا حنيفي ما الذي صنعت؟ قلت: بعته منهم، قال: بكم؟ قلت: بعشرين ديناراً قال: أخطأت لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده! يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة.

والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً في الخلوة وقد لا يشعر العبد به فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه، وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعاً إلا كراهة ضعيفة إن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه، فإنه لو كان في عبادة واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعاً ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه، فإن دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر[1] إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه إلا أن يزيد عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه فذلك لا بأس به، ولكن فيه غرور إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما حصل بأن يعدوا كثيراًً أو يضحك كثيراً أو يأكل كثيراً فتسمح نفسه بذلك فإذا لم تسمح وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق. ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة في نفسه لا كرامة إلا إذا كان في الغني زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرماً له بذلك الوصف لا بالغنى، فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويحبب إلى القلب المسكنة، والنظر إلى الأغنياء بخلافه، فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير!.

وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه، نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة، ولكن يكون بحث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعاً في غناه ورياء له، ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع


 



[1]      أي عَجَّل واسْتَبَقَ. (تاج العروس)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178