عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك؟ فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة؟ وفي الخبر: ((مَنْ حَمَلَ الْفَاكِهَةَ أَوِ الشَّيْءَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ))[1].

الامتحان الخامس: أن يلبس ثياباً بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلوة كبر وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ اعْتَقَلَ الْبَعِيْرَ وَلَبِسَ الصُّوْفَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ))[2] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكِلٌ بِالأَرْضِ وَأَلْبَسُ الصُّوْفَ وَأَعْقِلُ الْبَعِيْرَ وَأَلْعَقُ أَصَابِعِيْ وَأُجِيْبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوْكِ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مَنِّيْ))[3] وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له: إن أقواماً يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس عباءة فصلى فيها بالناس.

وهذه مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه.

بيان غاية الرياضة في خلق التواضع:

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة: فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً ومذلة، والوسط يسمى تواضعاً والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس، فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي وضع شيئاً من قدره الذي يستحقه. والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند الله العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره.

فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد


 



[1]      شعب الإيمان، باب في حسن الخلق، الحديث:۸۲۰۱،٦/٢٩٢ بتغير.

[2]      شعب الإيمان ، باب في الملابس…الخ، الحديث:٦۱٦۱،٥/١٥٣.

[3]      الزهد لابن المبارك، باب فضل ذكر الله، الحديث:۹۹٥،ص:۳٥۳.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178