عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، ولعَمري[1] لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياًّ إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله. فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً، وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا؟ فكيف في يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي، فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس؟ فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر، فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص. وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص. ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت إنه لا أجر له فيه أصلاً.

بيان درجات الرياء:

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه وأركانه ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء.

الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إمّا أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إمّا أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً.

الأولى: وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عند الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لمّا أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.


 



[1]      "لعَمري، وما عمري" قسم بحياته، وهو في هذا الاستعمال مفتوح العين. (توضيح المقاصد والمسالك)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178