عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين[1] ولذلك وسم به الشيطان اللعين وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعي إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى.

فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء ولكن السماء لسعة الأقطار وافية بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً.

فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها، ولذة لا كدر لها، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً، فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنك رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور إذ العنين[2] لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجال ﴿رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ [النور:٣٧] ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين  ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ[الرخرف: ٣٦]

بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب:

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين، بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة.

أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته فاستنكرت ذلك واستبشعته[3]، وهذه جناية


 



[1]      العليون: درجة من درجات الجنة، والسجين: طبقة من طبقات الجحيم. (اتحاف)

[2]      العنين: الذي لا شهوة له. (اتحاف)

[3]      أي استقبحته. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178