عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

أَرْذَلَهُمْ))[1] ما تكلمت عليكم. وقال الجنيد أيضاً: التواضع عند أهل التوحيد تكبر. ولعل مراده أن التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئًا حتى يضعها أو يرفعها.

وعن عمرو بن شيبة قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون[2] الناس، قال: ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر، فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي: مالك تنظر إليّ فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة فقال: أنا ذلك الرجل، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس. وقال المغيرة: كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول: إن زماناً صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء. وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض[3]، وقال هذا من أجلي يصيبكم لو مات عطاء لاستراح الناس. وكان بشر الحافي يقول: سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم.

ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال: أعطاك الله ما ترجوه فقال: إن الرجاء يكون بعد المعرفة فأين المعرفة؟ وتفاخرت قريش[4] عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوماً فقال سلمان: لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن خف فأنا لئيم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع. نسأل الله الكريم حسن التوفيق.

بيان حقيقة الكبر وآفته:

اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر. فالباطن: هو خلق في النفس. والظاهر: هو أعمال تصدر عن الجوارح. واسم الكبر بالخلق الباطن أحق وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر، فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبراً ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه


 



[1]      سنن الترمذي ، كتاب الفتن ، باب ماجاء في علامة حلول المسخ...الخ ،الحديث :۲۲۱۸،  ٤ /۹۰.

[2]      أي يُوَبِّخُون. (قاموس)

[3]      الماحض: الحامل التي قد دنا ولادها وقرب نتاجها. (الزاهر)

[4]      أي جماعة منهم. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178