عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه، وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي.

فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني، وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى، فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لا محالة وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.

بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب:

اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع، ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له، ولكن إن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص؛ لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل قال الله تعالى: ﴿وَلَايَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ﴾ [الحشر: ٩] وقال عز وجل: ﴿وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ [النساء:٨٩] وقال: ﴿إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ﴾ [آل عمران:١٢٠] أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح.

فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا.


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178