عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر إليه عبادة فضلاً عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته، وهيهات فأنى! يسمح آخر الزمان بمثلهم؟ فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا[1] في القرن الأول ومن يليهم، بل يعز في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة فذلك أيضاً إما معدوم وإما عزيز ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((سَيَأْتِيْ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ مَنْ تَمَسَّكَ فِيْهِ بِعُشْرِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ نَجَا))[2] لكان جديراً بنا أن نقتحم، والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا، ومن لنا أيضاً بالتمسك بعشر ما كانوا عليه، وليتنا تمسكنا بعشر عشره. فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله.

الثاني: العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا.

أما في الدنيا: فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم، ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء وكأنهم يرون عبادتهم منة على الخلق.

وأما في الدين: فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجياً وهو الهالك تحقيقاً مهما رأى ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّجُلَ يَقُوْلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ))[3] وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله، مغتر بالله، آمن من مكره غير خائف من سطوته[4]، وكيف لا يخاف ويكفيه شراً احتقاره لغيره قال صلى الله عليه وسلم: ((كَفَى بِالْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) [5] وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجوه لنفسه، فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مترفع عن مجالستهم، فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل وما أجدره إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال.


 



[1]      أي ذهبوا ولم يَبقَ منهم أحد. (المعجم الوسيط)

[2]      سنن الترمذي ، كتاب الفتن، الحديث : ۲۲۷٤،  ٤/۱۸.

[3]      صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب ، باب النهي من قول هلك الناس، الحديث :۲٦۲۳، ص:۱٤۱۲.

[4]      السطوة: شدة البطش. (جمع الجوامع)

[5]      صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم...الخ ، الحديث :۲٥٦٤، ص:۱۳۸۷.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178