عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال، وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح.

فإن قلت: فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه، نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم،كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلى بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه، فحبه للمال والجاه معلوم؛ إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب. وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا، وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبروه بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فنقول: نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب وله سببان: أحدهما جلي تدركه الكافة والآخر خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلا عن الأغبياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغوَّاصون.

فأما السبب الأول: فهو دفع ألم الخوف، لأن الشفيق بسوء الظن مولع[1]، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنّه طويل الأمل، ويخطر بباله أنّ المال الذي فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة[2]، فهو أبداً لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة، ويقدر هجوم الحاجات، ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلك فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر.

وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال، فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْهُوْمَانِ[3] لاَ يَشْبَعَانِ مَنْهُوْمُ الْعِلْمِ وَمَنْهُوْمُ الْمَالِ)) [4] ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه


 



[1]      إن الشفيق بسوء ظن مولع: يضرب في خوف الرجل على صاحبه الحوادث لفرط الشفقة. (تاج العروس)

[2]      أي آفة. (اتحاف)

[3]      النَهْمَة: شدة الحرص على الشيء ومنه النهم من الجوع كما في النهاية. (فيض القدير)

[4]      العلل المتناهية ، باب بيان ان طالب العلم لايشبع منه، الحديث :۱۱۱- ۱۱۲،   ۱ /   ۹٥- ۹٤




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178