عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

كما سبق صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز: ½أما بعد! فكأنّك بآخر من كتب عليه الموت قد مات¼ فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً. وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه: ½أما بعد! فكأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل¼، فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا. وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى: ﴿ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (١٦) وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ﴾ [الأعلى: ١٦،١٧] وقال عز وجل: ﴿كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ[القيامة: ٢٠،٢١] فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء، وخائف على الدوام على جاهه، ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشدّ تغيراً من القدر في غليانها، وهي مترددة بين الإقبال والإعراض. فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي[1] ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له. والاشتغال بمراعاة القلوب، وحفظ الجاه، ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء، كلُّ ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه. فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة. فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة. وأما من نفذت بصيرته، وقوي إيمانه، فلا يلتفت إلى الدنيا. فهذا هو العلاج من حيث العلم.

وأما من حيث العمل: فإسقاط الجاه على قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا[2] الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن[3] الدين في قلوب المسلمين وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس، كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة، فلمّا نظر إليه الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد: الحمد لله الذي صرَّفك عني.


 



[1]      يضاهي:أي يُشابه. (اتحاف)

[2]      أي رموا بنفسهم فيها على شدة ومشقة. (أساس البلاغة)

[3]      الوهن: أي الضعف. (المعجم الوسيط)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178