عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وأما السبب الثاني: وهو دلالة المدح على تسخير قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب وقد سبق وجه معالجته، وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله، وبأن تعلم أن طلبك المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله فكيف تفرح به!

وأما السبب الثالث: وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح، فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لا ثبات لها ولا تستحق الفرح بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به كما نقل ذلك عن السلف. لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان. قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه. وقال بعضهم: إذا قيل لك: نعم الرجل أنت، فكان أحب إليك من أن يقال لك: بئس الرجل أنت فأنت والله بئس الرجل، وروي في بعض الأخبار - فإن صح فهو قاصم[1] للظهور- أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لَوْ كَانَ صَاحِبُكَ حَاضِرًا فَرَضِيَ الَّذِيْ قُلْتَ فَمَاتَ عَلَى ذَلكَ دَخَلَ النَّارَ)) [2] وقال صلى الله عليه وسلم مرة للمادح: ((وَيْحَكَ قَصَمْتَ ظَهْرَهُ لَوْ سَمِعَكَ مَا أَفْلَحَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [3] وقال صلى الله عليه وسلم: ((أَلاَ لاَ تَمَادَحُوْا وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْمَادِحِيْنَ فَاحْثُوْا فِيْ وُجُوْهِهِمُ التُّرَابَ))[4].

فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وَجَلٍ[5] عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به، حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال: أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم، فغضب وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني. وقيل: لبعض الصحابة لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله، فغضب وقال: إني لأحسبك عراقياً. وقال بعضهم: لما مدح، اللّهم إن عبدك تقرب إليَّ بمقتك[6] فأشهدك على مقته، وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق؛ لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة، هو المبعد من الله، الملقى في النار مع الأشرار، فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره، وإن كان من أهل الجنة


 



[1]      القصم: إهلاك الله الظالم، وكسر الشيء بإبانة بعض أجزائه. (إكمال الإعلام)

[2]      تذكرة الموضوعات ، باب ذمّ الدنيا والغنی ...الخ،  ص:  ۱۷۷.

[3]      كنز العمال ، كتاب الاخلاق، الباب الثانی في الاخلاق والافعال المذمومة ، الحديث : ۸۳۳۲،  ۳/۲٥۸.

[4]      صحيح مسلم ، كتاب الزهدوالرقائق، باب النهي عن المدح...الخ ، الحديث :۳۰۰۲، ص: ۱٦۰۰، دون قول : الا لا تمادحوا.

[5]      وَجَل: أي خَوْف. (المحيط في اللغة)

[6]      المقت: بغض شديد ناشيء عن فعل قبيح. (التعاريف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178