عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل؛ لأن الإيذاء حرام فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم: السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة. وقال قوم: السر أفضل من علانية لا قدوة فيها، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا))[1] وقد روي في الحديث: ((إِنَّ عَمَلَ السِّرِّ يُضَاعَفُ عَلَى عَمَلِ الْعَلاَنِيَّةِ سَبْعِيْنَ ضِعْفًا وَيُضَاعَفُ عَمَلُ الْعَلاَنِيَّةِ إِذَا اسْتُنَّ بِعَامِلِهِ عَلَى عَمَلِ السِّرِّ سَبْعِيْنَ ضِعْفًا))[2] وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة، وإنما يخاف من ظهور الرياء ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به فلا خلاف في أن السر أفضل منه، ولكن على من يظهر العمل وظيفتان:

إحداهما: أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدى به أو يظن ذلك ظناًّ ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق، وربما يقتدي به أهل محلته وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة، فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به.

والثانية: أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه إلى الإظهار بعذر الاقتداء، وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدى به، وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم. فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك. والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله لا بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن لذلك غامض، ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له: أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل، فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به ورغبتهم في الخير فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع إسراره فما بال


 



[1]      صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث علی الصدقة...الخ ، الحديث: ۱۰۱۷، ص ٥۰۸.

[2]      شعب الإيمان ، باب في السرور بالحسنة والاغتمام، الحديث : ۷۰۱۲،  ٥/٣٧٦ مفهوماً.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178