عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

أما العابد: فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد: من هو؟ وما عمله؟ ومن أين زهده؟ فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول: إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم وفلان ينام سحراً ولا يكثر القراءة وما يجري مجراه وقد يزكي نفسه ضمناً فيقول: قصدني فلان بسوء فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض أو ما يجري مجراه يدعي الكرامة لنفسه. وأما مباهاته فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر لهم قوته وعجزهم، وكذلك يشتد في العبادة خوفاً من أن يقال غيره: أعبد منه أو أقوى منه في دين الله.

وأما العالم: فإنه يتفاخر ويقول: أنا متفنن في العلوم[1] ومطلع على الحقائق ورأيت من الشيوخ فلاناً وفلاناً ومن أنت؟ وما فضلك ومن لقيت؟ وما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه. وأما مباهاته فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه.

فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه؟ فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ))[2] كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه من أهل النار؟ وإنما العظيم من خلا عن هذا ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظم وتكبر. والعالم هو الذي فهم أن الله تعالى قال له إن لك عندنا قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لها قدراً فلا قدر لك عندنا. ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدراً فهذا هو التكبر بالعلم والعمل.

الثالث: التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره: يا نبطي يا هندي ويا أرمني من أنت؟ ومن أبوك؟ فأنا فلان ابن فلان وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي ومع مثلي تتكلم وما يجري مجراه، وذلك


 



[1]      أي صاحب فنون. (اتحاف)

[2]      صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، الحديث :۹۱،ص:٦۱.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178