عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الحساب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته، ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو كيف يفرح ويبطر؟ وكيف يتكبر ويتجبر؟ وكيف يرى نفسه شيئاً حتى يعتقد له فضلا؟ وأيّ عبد لم يذنب ذنباً استحق به العقوبة؟ إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله. أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا؟ كيف يكون ذله في السجن؟ أفترى أنه يتكبر على من في السجن؟ وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه ذلك حزناً وخوفاً وإشفاقاً ومهانة وذلاً فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.

وأما العلاج العملي: فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يأكل على الأرض ويقول: ((أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ))[1] وقيل لسلمان: لم لا تلبس ثوباً جديداً؟ فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً. أشار به إلى العتق في الآخرة ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعاً وقيل: الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عماداً ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود وقد كانت العرب قديماً يأنفون من الإنحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه حتى قال حكيم بن حزام: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاءهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم، وبه أمر سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت.


 



[1]      الزهد لابن مبارك، باب فضل ذكر الله،  الحديث:۹۹٥،ص:٥۳.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178