عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

المقام الثاني: فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة، وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر، ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة.

الأول : النسب. فمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين:

أحدهما : أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ولذلك قيل:

لئن فخرت بآباء ذوي شرف     لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا

فالمتكبر بالنسب إن كان خسيساً في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره؟ بل لو كان الذي ينسب إليه حياً لكان له أن يقول الفضل لي ومن أنت؟ وإنما أنت دودة خلقت من بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس؟ هيهات بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة.

الثاني: أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال: ﴿ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ﴾ [السجدة: ٧،٨] فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينه حتى صار حمأ مسنوناً كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال: يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة.

فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول: افتخر بالقريب دون البعيد، فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته؟ وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده؟ فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان، فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان، ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف[1] فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئاً من كبره؟ لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب؛ إذ لو كان


 



[1]      أي عظمته. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178