عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

كان ذلك أشفى عنده من دوامها؛ إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقي الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداً مذموماً، وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفي عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثَلاَثٌ لاَ يَنْفَكُّ الْمُؤْمِنُ عَنْهُنَّ الحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ)) ثم قال: ((وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إِذَا حَسَدْتَ فَلاَ تَبْغِ)) [1] أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به. وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة؛ إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها. فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى[2].

ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا، ولكن يعفي عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له فهذه حقيقة الحسد وأحكامه. وأما مراتبه فأربع:

الأولى: أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث.

الثانية: أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها.

الثالثة: أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما.

الرابعة: أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه، وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة فيها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف من الثالثة، والأولى مذموم محض. وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ[النساء:٣٢] فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم، وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.


 



[1]      الجامع الصغير، الحديث :۳٤٦٦، ص ۲۰۹ بتغير.

[2]      أي شديده صلبه. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178