عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

فاعلم أن ذلك كان ممكناً لو علم العالم عاقبة أمره، وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هيناً وهو عند الله عظيم وقد مقته به، وإذا كان هذا ممكناً كان على نفسه خائفاً فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفاً على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره، فينبغي أن يكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال. فهذا حال العابد مع العالم.

فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل منه ذنوباً وأكثر منه عبادة وأشد منه حباً لله، وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك فلا ينبغي أن تتكبر عليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنباً لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة، نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك، فلا ينبغي أن تتكبر عليه إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله، فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا، وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه، وقد كفر الله بذلك عنه سيئاته، فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات، فهذا ممكن والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريباً عندك إن كنت مشفقاً على نفسك فلا تتفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وعذاب غيرك لا يخفف شيئاً من عذابك، فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن ترى نفسك فوق غيرك.

وقد قال وهب بن منبه: ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال، فعد تسعة حتى بلغ العاشر فقال: العاشرة وما العاشرة! بها ساد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيراً منه وإنما الناس عنده فرقتان: فرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى فهو يتواضع للفرقتين جميعاً بقلبه إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به، وإن رأى من هو شر منه قال: لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفاً من العاقبة ويقول: لعل بر هذا باطن فذلك خير له، ولا أدري لعل فيه خلقاً كريماً بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال ويرى ظاهر فذلك شر لي. فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها ثم قال: فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه. فهذا كلامه.


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178