عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل، فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة، أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو بما إليك من مد اليد وأخذها؟ فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤونة في تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح، فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك الموانع والصوارف[1] حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك، فمن العجائب أن تعجب بنفسك ولا تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من عباده؛ إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر عليهم وصرفهم عنك ومكنهم من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر! فعل ذلك كله بك من غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي، بل آثرك وقدمك واصطفاك بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك!

فإذن لا تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلاً إلى مخالفتها فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلاً تحقيقاً فله الشكر والمنة لا لك وسيأتي في كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل إلا الله ولا خالق سواه. والعجب ممن يتعجب إذا رزقه الله عقلاً وأفقره ممن أفاض عليه المال من غير علم فيقول: كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل! وأفاض على هذا نعيم الدنيا وهو الغافل الجاهل! حتى يكاد يرى هذا ظلماً ولا يدري المغرور أنه لو جمع له بين العقل والمال جميعاً لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال إذ يقول الجاهل الفقير: يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتني منهما؟ فهلا جمعتهما لي أو هلا رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له: ما بال العقلاء فقراء؟ فقال: إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه.


 



[1]      أي المشاغل. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178