عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الثالث: العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا، وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقاراً لهم وإهانة.

وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره، وليستقصر عقله وعلمه، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً وإن اتسع علمه، وإن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه، فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى! وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري. فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه، ومن أعدائه لا من أصدقائه، فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجباً وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد به عجباً.

الرابع: العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد.

وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والإزراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب، فليتشرف بما شرفوا به وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند الله شراً من الكلاب وأخس من الخنازير ولذلك قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ﴾ [الحجرات:١٣] أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب فقال: ﴿وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾ [الحجرات:١٣] ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: ١٣] ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ من أكيس الناس؟ لم يقل من ينتمي إلى نسبي ولكن قال: ((أَكْرَمُهُمْ أَكْثَرُهُمْ لِلمَوْتِ ذِكْرًا وَأَشَدُّهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا))[1] وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة فقال الحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد هذا العبد الأسود يؤذن! فقال تعالى: ﴿إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ [الحجرات: ١٣].


 



[1]      سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، الحديث:٤۲٥۹، ٤/٤٩٦بتغير.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178