عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح، وأن لا يكون موت المادح المطري[1] له أشد نكاية في قلبه من موت الذام، وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام، وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام، فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب!

وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون أنفسهم بهذه العلامات، وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام. والشيطان يحسن له ذلك ويقول: الذام قد عصى الله بمذمتك، والمادح قد أطاع الله بمدحك. فكيف تسوي بينهما؟ وإنما استثقالك للذام من الدين المحض. وهذا محض التلبيس، فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته، ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم ويعلم أن المادح الذي مدحه لا يخلو عن مذمة غيره. ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه. والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره. فإذاً العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض[2]، ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله، ومن لم يطلع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة، وفيهم قال الله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (١٠٣) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا [الكهف: ١٠٤،١٠٣].

الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة، أن يكره المدح ويمقت المادح؛ إذ يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين، ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((رَأْسُ التَّوَاضُعِ أَنْ تَكْرَهَ أَنْ تُذْكَرَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى))[3] وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((وَيْلٌ لِلصَّائِمِ وَوَيْلٌ لِلْقَائِمِ وَوَيْلٌ لِصَاحِبِ الصُّوْفِ إِلاَّ مَنْ....)) فقيل يا رسول الله إلا من ؟ فقال: ((إِلاَّ مَنْ تَنَزَّهَتْ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَ الْمِدْحَةَ وَاسْتَحَبَّ الْمَذَمَّةَ))[4] وهذا شديد جداً.


 



[1]      أي المبالغ. (اتحاف)

[2]      أي يغضب ويشق عليه. (تاج العروس)

[3]      الزهد لهنادبن السری ، باب التواضع ، الحديث : ۸۰۷ ،  ٢/٤١٤ بتغير.

[4]      تذكرة الموضوعات ، باب ذم الدنيا والغنی ...الخ  ، ص: ۱۷٤.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178