عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية: وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، فأما الحالة الثالثة: وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها. ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية، فإنها لا تفي بها؛ لأنها لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة[1] في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر[2] يتحدث الناس به ولا يرى، فكيف بما بعده من المرتبتين. وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات:

أما الدرجات في المدح: فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ولا يبالي بمقارفة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين.

ومنهم: من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات ولا يباشر المحظورات، وهذا على شفا جرف هار[3]، فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جداً.

 ومنهم: من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإن لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح فهو في خطر المجاهدة، فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه.

ومنهم: من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغنم به ولم يؤثر فيه، وهذا على خير وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص.

 ومنهم: من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه، وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه، لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له، فإن ذلك عين النفاق لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه، وكذلك بالضد


 



[1]      أي شيخاً يقتدى به. (اتحاف)

[2]      الكبريت: أي الخالص، والكبريت الأحمر: يقال: هو من الجوهر ومَعْدِنُه خَلْفَ بلاد التُّبَّت في وادي النَّمْل الذي مرّ به سُلَيْمانُ بن داود عليه السّلام، ويُقال : في كلِّ شيء كِبْريت وهو يُبْسُه ما خلا الذَّهَبَ والفِضّة فإنّه لا يَنْكَسِر فإذا صُعِّد الشّيء ذهب كِبْرِيتُه. صُعِّد :أي  نُقل من حال إلى حال. (لسان العرب ،وغيره)

[3]      أي جانب مشرف على السقوط. (التفسير الجلالين سورة التوبة: الآية ١٠٩)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178