عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل. وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون.

وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة: أ لم يكن يرخص عليكم السعر؟ أ لم تكونوا تبتدءون بالسلام؟ أ لم تكونوا تقضى لكم الحوائج؟ وفي الحديث: ½لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم¼. وقال عبد الله بن المبارك: روي عن وهب بن منبه أنه قال: إن رجلاً من السواح[1] قال لأصحابه: إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه، وإن اشترى شيئاً أحب أن يرخص عليه لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب[2] من الناس فإذاً السهل[3] والجبل قد امتلأ بالناس فقال السائح: ما هذا؟ قيل: هذا الملك قد أظللك، فقال للغلام: ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شِدقه[4] ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك: أين صاحبكم؟ فقالوا: هذا، قال: كيف أنت؟ قال: كالناس. وفي حديث آخر: بخير، فقال الملك: ما عند هذا من خير فانصرف عنه، فقال السائح: الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي يجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدّة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزي والد عن ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد: نفسي نفسي فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والنبهرج[5]، والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه، ولا حميم يتمسك به فلا ينجي إلى الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى.


 



[1]      التحقيق: السُوَّاح خطأ والصواب السُيَّاح جمع سائِح. (مجلة مجمع اللغة العربية)  

[2]      أي جماعة الفرسان. (مختار الصحاح)  

[3]      السهل ضد الجبل وهي الأرض اللينة. (مختار الصحاح وغيره) 

[4]      الشِدْق جانب الفم. (لسان العرب) 

[5]      الزائف والنبهرج: الرديء والغير الخالص. (تاج العروس)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178