عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيه شَوْب[1] خفي ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفصيل.

فإن قلت: فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم؟ فنقول: أولا: كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم فأما المحمود فأربعة أقسام.

الأول: أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ[يونس : ٥٨] فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به.

الثاني: أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْباً فِي الدُّنْيَا  إِلاَّ سَتَرَهُ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ))[2] فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى المستقبل.

الثالث: أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولا ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة.

الرابع: أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة؛ إذ من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه


 



[1]      أي الخَلْط. (القاموس المحيط)

[2]      صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والاداب ، باب بشارة من ستر الله ...الخ ، الحديث : ۲٥۹۰، ص: ۱۳۹۷.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178