عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموماً عند الله ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة، وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء ويعمل به لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة، وهذا أيضاً لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل.

فإذاً لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث وهي: المعرفة، والكراهة، والإباء. فالإباء: ثمرة الكراهة، والكراهة: ثمرة المعرفة، وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم، وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة.

وبعض ذلك ينتج بعضاً ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب؛ لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب والسنة وأنوار العلوم. فإن قلت: فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين؟.

فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذاً فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به.

ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا: تعرض لقلوبنا أشياء لأن نخر[1] من السماء فتخطفنا الطير[2] أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق[3] أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال عليه السلام: ((أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوْهُ ؟)) قالوا نعم، قال: ((ذَلِكَ صَرِيْحُ الإِيْمَانِ))[4] ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال: أراد بصريح الإيمان الوسوسة فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء، فإنه وإن كان عظيماً فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى.

وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال: ((الحَمْدُ لِلّهِ الَّذِيْ رَدَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ إِلَى الْوَسْوَسَةِ)) [5]  وقال أبو حازم: ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا


 



[1]      أي نسقط. (اتحاف)

[2]      الخَطْف: أخذ الشئ بسرعة. (المعجم الوسيط)

[3]      أي بعيد الغور. (اتحاف)

[4]      سنن أبي داود، كتاب الادب، باب في ردّ الوسوسة، الحديث : ٥۱۱۱،  ٤/٤٢٥.

[5]      سنن أبي داود، كتاب الادب ، باب في رد الوسوسة ، الحديث :٥۱۱۲، ٤/٤۲٥.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178