عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

يضرك ما هو من عدوك، وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه. فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان، والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل، إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب؛ لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصاناً في منزلته عند الله.

والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب.

الأولى: أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه، وهو على التحقيق نقصان؛ لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق، والتعريج[1] على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك.

الثانية: أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته.

الثالثة: أن لا يشتغل بتكذيبه أيضاً لأن ذلك وقفة وإن قلت: بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحباً للكراهة غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة.

الرابعة: أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء، فيكون قد عزم على أنه مهما نزغ الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظاً للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع.

يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له: إن فلاناً يذكرك، فقال: والله لأغيظن من أمره. قيل: ومن أمره؟ قال الشيطان اللهم اغفر له أي لأغيظنه بأن أطيع الله فيه ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته.

وقال إبراهيم التيمي: إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم، فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً فإذا رآه كذلك تركه. وقال أيضاً: إذا رآك الشيطن متردداً طمع فيك وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك[2]. وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال: مثالهم كأربعة


 



[1]      أي التمييل. (تاج العروس)

[2]      أي أبغضك. (القاموس المحيط)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178