عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

فإن قلت: مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وعم الجهل كافة الخلق؟ فنقول: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها حتى قال: ((إِنَّكُمْ تَحْرُصُوْنَ عَلَى الإمَارَةِ وَإِنَّهَا حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا))[1] وقال: ((نِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ[2]))[3] ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعاً، وثار القتال بين الخلق، وزال الأمن، وخربت البلاد، وتعطلت المعايش، فلم نهي عنها مع ذلك؟ وضرب عمر رضي الله عنه أبيّ بن كعب حين رأى قوماً يتبعونه وهو في ذلك يقول: أبي سيد المسلمين. وكان يقرأ عليه القرآن فمنع من أن يتبعوه وقال: ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع، وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه.

واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه فقال: أتمنعني من نصح الناس؟ فقال: أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى فيه مخايل[4] الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق. والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما.

فأما قول القائل: نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل القضاء. بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها. وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك.

ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلاً فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم وإلا فيعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعاً للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له: اشتغل وجاهد نفسك فإن قال: لست أقدر على نفسي فنقول: اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم إذ لا قائم به غيره،


 



[1]      صحيح البخاری، كتاب الاحكام، باب ما يكره من الحرص علی الامارة ، الحديث :۷۱٤۸،  ٤/٤٥٦.

       صحيح مسلم ، كتاب الامارة، باب كراهة الامارة بغير ضرورة، الحديث : ۱۸۲٥، ص:۱۰۱٥.

[2]      صحيح البخاری، كتاب الاحكام، باب مايكره من الحرص علی الامارة ، الحديث : ۷۱٤۸،  ٤/٤٥٦.

[3]      نعمت المرضعة: أي الحالة الموصلة إلى الإمارة وهي الحياة، بئست المرضعة: الحالة القاطعة عن الإمارة وهي الموت أي فنعمت حياتهم وبئس موتهم. (حاشية السيوطي والسندي على سنن النسائي)

[4]      أي مظان. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178