عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

((مَنِ اسْتُقْضِىَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ[1]))[2] فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن[3] في عينه، وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم؛ إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذراً مرخصاً له في الإهمال أصلاً بل إذا عزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان فكيف يرتقب عليه ثواباً وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار.

وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية وكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به القدر فآفته أيضاً عظيمة مثل آفة الولايات، وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلاً وكانوا يقولون: حدثنا باب من أبواب الدنيا، ومن قال: حدثنا فقد قال أوسعوا لي. ودفن بشر كذا وكذا قِمَطْرَة[4] من الحديث. وقال: يمنعني من الحديث أن أشتهي أن أحدث، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت.

والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم[5] وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة، فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقاً، ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثاً وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر، وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولاً، ثم يقول: إذا أنعم الله عليَّ بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون. فهذا أيضاً مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات، فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه.


 



[1]      إشارة إلى أن محذوره الخوف من هلاك الدين دون البدن إذ الذبح في ظاهر العرف إنما هو بالسكين، أو إلى شدة الألم لكون الذبح بغير سكين إما بالخنق أو التعذيب، والذبح بالسكين أروح، والله أعلم. (اتحاف)

[2]      الكامل في ضعفاء الرجال، الرقم: ٦۳٤، داود بن الزبرقان، ج ۳/٥٦۹.

[3]      أي مقام ومنزلة. (اتحاف)

[4]      ما يُصَانُ فِيها الكُتُبُ. (تاج العروس)

[5]      أي صياحهم. (تاج العروس)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178