عنوان الكتاب: هداية الحكمة

المعقول في العقل مجردة عن المادة ولواحقها، وكل ما يمكن أن يقارنه سائر المعقولات في العقل يمكن أن يقارنه سائر المعقولات لذاته، وكل ما يمكن لواجب الوجود بالإمكان العام يجب وجوده له، وإلا لكان له حالة منتظرة، هذا خلف، فإن قيل: لو كان الباري تعالى عالماً بشيء لكان فاعلاً لتلك الصورة وقابلاً لها، وهو محال؛ لأن القابل هو الذي يستعد للشيء، والفاعل هو الذي يفعل الشيء، والأول غير الثاني فيلزم التركيب. قُلنا: لم لا يجوز أن يكون الشيء الواحد مستعداً للشيء التصوري ومفيداً له، وهذا لأن معنى كونه مستعداً للشيء أنه لا يمتنع لذاته أن يتصوره، ومعنى كونه فاعلاً أنه مقدم بالعلية على ذلك التصور، فلم قلتم: إنهما متنافيان؟ ومن اعتقد أن علمه تعالى بالأشياء نفس ذاته اعتقد نفي العلم بالحقيقة.

فصل في أن الواجب لذاته عالم بالجزئيات المتغيرة على وجه كلي

لأنه يعلم أسبابها علماً تاماً، فوجب أن يكون عالماً بها؛ لأن من يعلم العلة علماً تامّاً، وجب أن يعلم ما يلزم عنها لذاتها، وإلا لما كان عالماً بها، لكن لا يدركها مع تغيرها، وإلا لكان يدرك منها تارةً أنها موجودة غير معدومة، وتارةً يدرك أنها معدومة غير موجودة، فيكون لكل واحدة منهما صورة عقلية على حدة، وواحدة من الصورتين لا تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات، هذا خُلف. بل يدرك على وجه كلي، كما تعلم الكسوف الجزئي بعينه بأنك تقول فيه: إنه كسوف يكون بعد حركة كوكب كذا من كذا شمالياً بصفة كذا، وهكذا إلى جميع العوارض، لكنك ما علمته جزئياً؛ لأن ما علمته لا يمنع الحمل على كثيرين، وهذا العلم الكلي غير كافٍ للعلم بوجود ذلك الكسوف المشخص في ذلك الوقت ما لم ينضم إليه المشاهدة، ولما لم يكن الحاصل في علم الله تعالى سوى ما ذكرنا لم يعلم الجزئيات إلا على وجهٍ كليٍ.

فصل في أن الواجب مريد للأشياء وجواد

أما إرادته فلأن كل ما هو معلوم عند المبدأ وهو خير، غير مناف لماهية فائض عن ذات المبدأ وكماله المقتضى لفيضانه، فذلك الشيء مرضي له، وهذا هو الإرادة. أما جوده فنقول: الواجب لذاته إما أن يفعل بقصد وشوق إلى كمال أو يفعل؛ لأنه نظام الخير في الوجود، فيوجد الأشياء على ما ينبغي لا لغرض وشوق، الأول محال؛ لما بينا أن واجب الوجود ليس له كمال منتظر، والقسم الثاني حق، فهو الجواد.


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

118